ها هو ذا يقترب مني ثانية، بائع المثلجات الذي أصر منذ أيام على أن يرافقني حتى بيت أهلي.
«كيف الحال؟ لماذا عدتِ ثانية إلى هنا؟»
سألني ووددت أن أرد عليه بصدق: « لكي أراك».
لكنني لم أقل شيئاً.
لم أعد أفكر فيه، كنت حمقاء، ولم أكن جادة فيما قلته يومها.
«لازلت تفكرين في حلك الاستثنائي؟»، عاد يسأل وكأنه قرأ أفكاري، وابتسمت رغماً عني.
في خضم تعقيدات حياتي في الفترة الأخيرة، ها هو ذا الشاب الذي لا أعرف عنه شيئاً، يفرّج عني همومي.
«لا.. نسيته بعد ما قلته لي.. لديّ مشاغل أخرى الآن..»
يومها خرجت غاضبة من المنزل، عايرتني زوجة والدي من جديد بأمي، وبكيت، ليس لأنني أحسست بالظلم، ولكن لأن كل المصائب التي تحيط بي من صنع يديّ.. أنا وأختي.
أمي لم تستطع أن تتحمل العيش مع أبي، لم يكن يلقي بالاً لأي أمر مما يشغلها، دراستنا، علاقاتنا الاجتماعية، مصاريف البيت، احتياجاتها الخاصة.. شجارهما كان شبه يومي.. وذات ليلة رفع يده عليها، وغادرت البيت باكيةً وطلبت الطلاق.
خيرّنا القاضي بين أن نبقى معها، أو نعيش مع والدي، واخترنا الوالد، أمي كانت متطلبة كثيراً، تريدنا أن نجتهد وندرس ونتعلم الطبخ والخياطة ورعاية شؤون البيت وأموراً كثيرة أخرى، بينما أبي.. أبي حكاية أخرى.
انقطعت صلاتنا بالوالدة بعد ذلك، لم تسأل عنا، اختفت من حياتنا بشكل نهائي.. وبقينا نعيش بشكل فوضوي مع الوالد، نذهب إلى المدرسة متى شئنا، نخرج وندخل ونفعل ما نشاء دون أن نَلقى لوماً ولا محاسبة، وذات يوم أخبرنا بأنه قرر أن يتزوج.
أختي محظوظة، لم تتحمل زوجة أبينا طويلاً، تقدم لها أحدهم وقبلت به وانتقلت للعيش معه في مدينة أخرى، وبقيت مع أبي وزوجته التي لم تلبث أن أخذت تكوّن أسرتها الخاصة، وتنبذني بشكل فج.. وأبي لا يحرك ساكناً.
تركت المدرسة منذ زمن، أقترب الآن من الثلاثينات بخطا سريعة، ولا أرى منفذاً ينقذني من جحيم العيش في أسرة لا تأبه لي.
أبي مشغول بفنه الذي لا يؤكلنا خبزاً، لوحاته لا تباع، وحلمه بالمجد والشهرة تبدد منذ زمن.
زوجته مشغولة بإنجاب الأطفال والشكوى ليل نهار من حظها التعس معنا، ومن وجه النحس الذي أمثله في نظرها.
وأنا.. أنا أتسكع في الطرقات وأفكر في أنجع طريقة لوضع حد لكل هذا.. ولا أقوى على فعل شيء.
كنت أفكر في ذلك الحل اليائس يوم وجدني بائع المثلجات أحملق في أمواج البحر في عز الظهيرة..
«أتساءل: أية طريقة أختار.. هل أرمي نفسي في الماء.. أو أتناول سم حشرات لن تبخل زوجة أبي علي به.. أو أشنق نفسي في غرفة السطح.. حيث يحتفظ والدي بلوحاته التي لا تباع.. أو أرتمي تحت عجلات السيارات.. لا أعرف.. بماذا تنصحني..؟»
كان ذاك ما قلته له عندما ألح علي بالسؤال.
أجبرني على النهوض وناولني قالب مثلجات، ورافقني إلى البيت، ولم يكف عن الكلام.
لا أدري ما قاله بالضبط لكنه أراحني، أراحني كثيراً، وذكرني بكلام أمي التي كانت تحدثنا مثله عن الحياة والرزق والأمل والخير الكثير الذي ينتظر الإنسان العامل المجد، وأمور أخرى كهذه، أمي التي اختفت من حياتنا كفص ملح ذاب..
«لازال نفس الموال الأسود يدور في رأسك، استغفري الله يا فتاة.. لازلت صغيرة..»
صغيرة..؟ يراني حقاً صغيرة.. وأنا أقارب الثلاثين...؟
ابتسمت وقلت له: «والله العظيم لم أعد أفكر فيه، ولا أظنني كنت أجرؤ عليه، ما لي والانتحار؟ أعوذ بالله..»
ضحك وقدم لي قرن بوظة، وقمت أتمشى معه وقد خف وزني فجأة.
شعرت بنفسي أطير: «حدثني عنك.. ما اسمك؟ تخيل أنني لا أعرف حتى اسمك، بينما أنت تعرف كل شيء عن حياتي...»
أشرق وجهه، وتملكتني السعادة وأنا أستمع إليه وأتناول البوظة بشهية، كانت حلوة كالعسل.
راقبت ظلينا ونحن نتمشى على الشاطئ، كان ثمة شيء من السحر في الطريقة التي تمددا فيها أمامنا.. تطلعت إليه، وصمتّ، وتطلع إليّ أيضاً، وشعرت بأن الحياة تخبئ لنا شيئاً جميلاً.