ماذا لو أنك تمضي دون أن تترك شيئًا من خلفك قد يزعجك مستقبلًا؟ ماذا لو أنك تمضي هكذا بذاكرة جديدة، خالية تماماً من الألم، من الصور، من الخيبة؟ أن تمضي دون أن تنوي العودة، تذكرة واحدة، تهبط بك إلى خارطةٍ أنت اخترتها، وجهة كنت تحبها، كانت تنتظرك، ها أنت الآن تقف بين عمقها، ماذا لو أنك تركت كل شيء من ورائك يتخبط أو يتداعى ثم رحلت؟ ما الذي ستخسره وأنت كلك معك؟
للأسف دائماً نؤجل موعد الرحيل، دائماً نضعنا على قائمة الانتظار، بينما لا أحد يضعنا في مقدمة قائمته مثل ما نفعل نحن، لذلك فقط ننتهي شيئاً فشيئاً، حد النهاية غير المتوقعة، إذا كنت تملك القرار الآن، وإذا كنت تحبك بمقدارِ ما تحبهم ارحل، هكذا مكتفيًا بنفسك دونهم.
أنا أعلم جيدًا بأنك متردد، مرتاب، تخاف النهاية، تخشى الانسحاب، تخشى الندم، وأن تتآكل بمفردك. أنا أعلم جيدًا بأنها خطوة فارقة، مؤلمة، قاسية، لقلبك، أنا أعلم بماهيّة الثقوب التي بداخلك، والتي سيحدثها هذا الاصطدام الأخير. لكنّك ستفهم بعد حين، بأنها كانت مجرّد هالة معتمة، وأنت غرقت فيها بسببِ ظلامها، ستدرك في لحظة لم تتنبأ بها بأنك كنت أسيرًا لمشاعر مفخخة، وبأن الجميع يعبرك، يتجاوزك، جميع علاقاتنا مؤقتة، إلا علاقتنا معنا، تلك العلاقة التي تشدك إليك، تربطك بك، تمدّ جسورها لعمقك، وتحملك على محملٍ ثابت، لا يميل، لا يتأثر، لا يتغير، لا يبتعد، أنت جسر روحك، مهما كنتَ عابرًا بينك وبينك، أنت الشخص الوحيد المستقر فيك، رغمًا عنك.
خذها ببساطة، استمتع بقدرِ ما تريد، كن هنا وهناك، تجاوز هذا، وصافح الآخر، اعبث بين شعورٍ وحدث، لكن لا تحمل بعض اللحظات ما لا تحتمله، حياتنا قصيرة، حياتنا مع الأشخاص الذين نحبهم، مرتبطة بالعدِ التنازلي، مهما طال، سينتهي، مهما حاولنا التشبث، سننتهي، مهما مددنا اليد، مددنا القلب، مددنا التضحيات سننتهي، كل شيء ينتهي بالتتابع، نحن معلبون، لنا تاريخ انتهاء، تاريخ صلاحيتنا ليس بطويل الأجل للأسف، لذا كن مستعدًا للنهايات التي تأتيك مغلفة بالحب، استقبلها بهدوء، خذها بين يديك، تأملها طويلًا، ثم ضعها فوق صدرك وأنت تشتمّ رائحتها، لأن هذه الرائحة ستعذبك طويلًا، ستكون قصاصك، حاول التأقلم مع وخزها، ثم أخيرًا أدر ظهرك بحبور، وابتعد، ابتعد دون عودة، لم يعد هذا مكانك، ولم تعد هذه قصتك، أنت البطل الذي ماتت حكايته منذ البداية.
لا بأس، نحن نرحل لا محالة، يكفي أن تبقى ذكرياتنا من بعدنا بشكلها الرائق بينهم كما كانت.