لمرّةٍ أخيرة

مريم شمص
مريم شمص
مريم شمص

نحكي دائما عن المرّة الأولى.. وجمال المرّة الأولى، ولذّتها وتميّزها وحنيننا إليها...
نتغنّى بأوّل كلمة حب، وأوّل لقاء، وأوّل كلمةٍ نطقها طفلنا، وأوّل خطوة مشاها.. وننسى، أنّ المرّة الأولى لم تكن سوى بداية لمرّات كثيرة، مرّات جميلة، بل ربّما أجمل من الأولى.. وأنّ ما كان فعلاً مهمّاً وحاسماً وجديراً بالتذكّر هو حدوثها للمرّة الأخيرة.. فماذا عن المرّة الأخيرة؟!
ماذا عن جمال المرّة الأخيرة وأهميتها وتميّزها وماذا عن حنيننا الجارف إليها.. ماذا عن ذلك الشعور الذي لم نعرف أنه يحدث حينها ولن يتكرّر مرّةً أخرى.. عن الفرصة التي لم نكن نعرف أنها لن تأتي ثانيةً من بعدها.. عن الفرحة التي لم نكن ندرك أننا لن نغرف من عسلها مجدّداً، عن كلّ ما لم نكن نعرف أنه لن يُعادَ في حياتنا..
عن تلك "المرّة الأخيرة" التي لم نعرف متى كانت، التي كناّ فيها مدلّلين، كلّ همومنا على عاتق أهلنا، قبل أن نكبر فجأةً من بعدها في لحظةٍ كانت "أخيرة"..
عن تلك المرّة الأخيرة التي سمعنا فيها كلمة "أحبك" بالشغف نفسه، وشوق المرّة الأولى، قبل أن تتحوّل إلى كلمةٍ روتينيةٍ عاديةٍ تقال كما تقال جملة صباح الخير..
عن تلك المرّة الأخيرة التي جاء فيها ابنك الصغير خائفاً من صوت الرّعد طالباً أن ينامَ إلى جانبك، وتأففتِ غير مدركة أنه لن يخافَ من بعدها؛ إذ سيكبر فجأة قبل أن تكتفي من المرّات التي سيلجأ فيها إلى حضنك خائفاً..
عن تلك المرّة الأخيرة التي لثغت فيها ابنتك بحرف الـ "راء" وصارت تلفظه تماماً كما يجب، تماماً كما أردتِ، تاركةً لك الشوق والحنين لتلك اللثغة المحبّبة على لسانها..
عن تلك المرّة الأخيرة التي تعثّر فيها طفلك في مشيته الأولى وأنت تشجعينه، وتمدّين ذراعيك مستعجلةً استقامة خطواته. المرّة التي سار من بعدها مستقيماً ولم يطلب منك مجدّداً أن تفتحي ذراعيك له لكي تسنديه إذا وقع..
عن تلك المرّة الأخيرة التي عاتبك فيها شخص يحبك على خطأٍ مزعجٍ متكرّرٍ وتجاهلتِه، ولم يعاتبك من بعدها أبداً..
عن تلك المرّة الأخيرة من الاستيقاظ مبكراً والركض في دوامة النهار وضجيج الالتزامات قبل هدوء العمر واستكانة الأيّام والفراغ الداكن بعد انشغال الاولاد ورحيل الأصدقاء وانحسار الأيّام الصاخبة.
عن المرّة الأخيرة من أيّ لهفةٍ، من أيّ شغفٍ، من كلّ ما كانت المرّة الأولى لحدوثه تستحقّ احتفالاً وتأريخاً..
المرّة الأخيرة في الحقيقة هي الأشدّ فرحاً، هي الأعمق متعة، هي الأكثر تميزاً.. وهي أيضاً، الأكثر إيلاما في الحنين إليها.. سنضحك فرحاً حين نتذكّر: نتذكّر الكلمة الأولى لأطفالنا، تعثّر خطواتهم الأولى بمساعدتنا، المرّة الأولى التي أكلوا فيها لوحدهم، لقاءنا الأول برفاق العمر، بحبّنا الكبير، يوم عملنا الأوّل.. لكنّ حنينا لهذه المرّات الأولى سيكون منعشاً، عذباً ومبهجاً.. أمّا حنيننا للمرّة الأخيرة، فسيكون مرّاً وموجعاً كغصّةٍ في الحلق. لأنّنا سنعرف حين نتذكّرها أنّ ما شعرنا به في حينها كان، من دون أن ندرك ذلك للأسف، "لمرّةٍ أخيرة".