لو تكلّم النّاجون

مريم شمص
مريم شمص
مريم شمص

لو تكلّم النّاجون..

أولئك الذين نضربُ بهم الأمثالَ وعنهم نقول: الضربةُ التي لا تقتلك تقوّيك..

أولئك الذين نراهم بابتساماتهم الواسعة، بنظرات الثقة في عيونهم، بحكمة كلماتهم ومتانة خبرتهم، فنظنّهم بكامل لياقتهم النفسيّة والروحيّة..

لو تكلّم النّاجون، أولئك الذين نظنّ أنّهم فعلاً كما يقولون، زرعوا في شقوق جروحهم ورداً، وغطّوا آثار كدماتهم بمساحات الأمل الملوّنة، وبخّروا أماكن خرابهم بعطر النسيان..

أولئك الذين نسجوا بياضَ فجرهم خيطاً خيطاً، وحاكوا أجنحةَ نجاتهم ريشةً ريشةً..

لو تكلّم أولئك الناجون، من نسمّيهم أبطالاً، جبّارين، منتصرين.

لو تكلّموا.. لقالوا ماذا فعلت بهم تلك الضربة، كم صرخة ألمٍ أرادوا أن تشقّ عنان السماء وكابروا كي لا تنطلق من صدورهم، فلم تشقّ شيئاً غيرَ شغاف قلوبهم..

لقالوا إن الضربةَ التي لا تقتلك تقوّيك فعلاً، لكنها تقتل فيك ما لا يعود للحياة أبداً، تقتل الشعور بالأمان..

لقالوا كم عضّوا على جراحهم وكبتوا مشاعرهم، وظلّوا يكبتونها حتّى نسوا كيف يكون الشعور...

لقالوا إن ابتساماتهم الواسعة لا تشبه ابتساماتهم من قبل، إنها ابتساماتٌ مرسومةٌ منحوتةٌ مصنوعةٌ بالقوّة، إنها مجرد قناعٍ يخلعونه حين يختلون بأنفسهم، وربّما ينقعونه بالدّمع كل ليلة كي يبقى نضراً صالحاً لاستعمالٍ آخر..

لقالوا إنّ نظراتِ الثقةِ الثابتةُ في عيونهم هي من زجاجٍ مصقول، قابلٍ للكسرعند أوّل اهتزاز..

لو تكلّم الناجون لأخبروك أن شقوقَ جروحهم لازالت تنزفُ في السرّ، وأن الورود التي نراها فوقها ماهي إلا ورودٌ اصطناعيّة، فكيف للورد أن ينبتَ في جفاف الأحاسيس وعتمة الألم.. لقالوا إن خرابَهم الداخليّ شاسع مفزع لا يجدي معه عطرٌ ولا بخور، وإنّهم لم يجرؤوا بعد على كنس ركامه.

لأخبروك عن أشدّ اللحظات ظلمةً، تلك التي سبقت الفجرَ بدقائق. عن تجمّد أصابعهم برداً ورهبة وهم يدخلون خيطَ الأمل في إبرة النجاة، عن كم مرّة نزفت أيديهم وهم يشكّون ريشَ الإرادةِ في أجنحةِ خلاصهم.

لأخبروك عن محاولات الطيران الأولى من بعدها، عن كدمات السقوط الموجعة كلَّ مرّة.. عن محاولاتِ الزحف من نفق الفجيعة نحو الضوء، عن ألمِ سحلِ أحلامهم وهم يزحفون..

لأخبروك،عن ابتلاع الدمع الحارق بانتظار الفرَج..لأخبروك عن الصبر، تلك الوجبة المرّة التي يقتات بها المنتظرون وحدهم، القابضون على جمرهم لأنّه مصدرُ الضّوءِ الوحيد..

لو تكلّم الناجون، الناجون بالمصادفة أو النّاجون عمداً.. الناجون من مرضٍ، أو مصيبةٍ، أو كارثةٍ أو من علاقةٍ سامّةٍ فاشلة.. الناجون من عذابات أنفسهم أو من عذابات الآخرين. لأخبروك إلى أي حدٍّ يمكن للحياة أن تكون قاسية، إلى أيّ حدِّ يمكن أن تكونَ النجاةُ مكلفة.

لو تكلّم الناجون لأخبروك عن الخوف: المعنى الحقيقي للخوف.. عن الألم: المعنى الحقيقي للألم.

حين يتكلّم الناجون فأنصِت، فإنصاتُك اكتمالٌ لنجاتهم، أو ربّما قد يكون أحد أسباب نجاتهم بالفعل.