ما أجمل الأمومة.. وما أصعب أن نكون أمّهات.
إنها السعادة المطلقة ممهورة بختم الألم.
إنها أجمل معاني الحياة: الحبّ، الشغف، الانتماء، القوّة.. مقرونة بأكثرها إيلاماً: القلق، التعلّق، الشوق، الضّعف..
إنها أن تغادرك روحك لحظة انطلاق صرخة وليدك الأولى لتلتصق به، ولا تملكينها من بعدها أبداً.
إنها أن يُربط شغاف قلبك بأهداب ذاك الصغير، بأطراف أظافره الطريّة، فإن انكسر ظفرٌ له، أو سقط هدبٌ، اهتزت أركان شعورك..
إنها أن يراكِ أولادك أقوى مخلوقٍ في العالم، وأنت أضعف الخَلق حين يقضم القلق كيانك كلّه إن مسّهم أيّ ضرر..
إنّها أن يكون لك مخالب لحمايتهم، وقفازاتٍ من مخمل وحرير كي لا تخدشي جلدهم الطريّ..
ما أصعب أن نكون أمّهات.. نريد أن يمرّ الوقت كالسحر ليكبر أولادنا ويقووا، ونرجوا الوقت أن يتجمّد كالسحر أيضاً كي يبقوا في حضننا صغاراً ضعفاء محتاجين لدفء حناننا.
نريد لأولادنا أن يتقنوا كلّ فنون الحياة: أن يقرؤوا وحدهم، ويأكلوا وحدهم، ويمشوا في طرقات الكون وحدهم، وفي داخلنا نريدهم أن يبقوا إلى الأبد أولئك الأطفال مورّدي الخدود ببيجاماتهم الملوّنة، جالسين في أحضاننا يسألوننا للمرة الألف عن قصة الأميرة النائمة والساحرة الشريرة قبل النوم.
نفتخر بسماع طفلنا يزهو بأنه كبر، ولم يعد محتاجاً لحمايتنا من جنون الرعد، ونريد في سرّنا أن نصرخ معترفين بأننا اشتقنا لصوت قدميه الحافيتين يركض نحو سريرنا خائفاً باحثاً عن حضننا وأماننا..
نريد أن تقوى أجنحتهم ولا نريدهم أن يطيروا بعيداً عنّا، نريد أن يشقّوا لأنفسهم دروباً تشبه أحلامهم، ولا نريد أن تقودهم تلك الدروب إلى غير أبواب بيوتنا.
نحلم برؤية ابنتنا عروساً تفيض سعادة، ونبكي في صمتٍ لأننا نريدها أن تعود معنا إلى البيت لتنام في سريرها وذراعنا تحتضن عطر جدائلها..
نريد لأبنائنا أن يسافروا إلى حيث الحياة أفضل، إلى حيث المستقبل أجمل، ونختبئ كالأشباح في حقائب سفرهم، نريد أن نسبقهم إلى الأسرّة لنقيس درجة دفئها وطراوة وسادتها، وأن نتسلل إلى قلوبهم لنتأكد من سلامتها من أي خدش..
ما أصعب أن نكون أمهات.. نعجن من سنابل الضوء في عيون أبنائنا قمح قوّتنا، وتعتم دنيانا إن لمحنا في تلك العيون غيمةً عابرة.. نغزل من ابتسامات وجوههم شال الطمأنينة لنفوسنا، وننهار قلقاً إذا لمحنا خلف الابتسامة دمعاً لم يبوحوا به..
تحتاج الأمومة إلى صلابة فولاذية، وإلى رقّة جناحي فراشة.. تحتاج إلى شلالات حنان غامر وقوّة بركان ثائر..
مخطئٌ من يظنّ أنّ مخاضنا بأولادنا ينتهي مع انتهاء آلام الولادة.. ليست الولادة سوى بدء مخاضنا الأبديّ، وكلّما كبر أولادنا وابتعدوا كلّما ازدادت آلام الانفصال في قلوبنا..
كان الله في عون قلوب الأمهات، فحبّهم من شدة اندفاعه يجرح، وألم جروحهم تلك هو أعظم ما في هذه الحياة.