ما‭ ‬أصعب‭ ‬أن‭ ‬
نكون‭ ‬أمّهات‭!‬

مريم شمص
مريم شمص
مريم شمص

ما‭ ‬أجمل‭ ‬الأمومة‭.. ‬وما‭ ‬أصعب‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬أمّهات‭.‬
إنها‭ ‬السعادة‭ ‬المطلقة‭ ‬ممهورة‭ ‬بختم‭ ‬الألم‭.‬
إنها‭ ‬أجمل‭ ‬معاني‭ ‬الحياة‭: ‬الحبّ،‭ ‬الشغف،‭ ‬الانتماء،‭ ‬القوّة‭.. ‬مقرونة‭ ‬بأكثرها‭ ‬إيلاماً‭: ‬القلق،‭ ‬التعلّق،‭ ‬الشوق،‭ ‬الضّعف‭..‬
إنها‭ ‬أن‭ ‬تغادرك‭ ‬روحك‭ ‬لحظة‭ ‬انطلاق‭ ‬صرخة‭ ‬وليدك‭ ‬الأولى‭ ‬لتلتصق‭ ‬به،‭ ‬ولا‭ ‬تملكينها‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ ‬أبداً‭.‬
إنها‭ ‬أن‭ ‬يُربط‭ ‬شغاف‭ ‬قلبك‭ ‬بأهداب‭ ‬ذاك‭ ‬الصغير،‭ ‬بأطراف‭ ‬أظافره‭ ‬الطريّة،‭ ‬فإن‭ ‬انكسر‭ ‬ظفرٌ‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬سقط‭ ‬هدبٌ،‭ ‬اهتزت‭ ‬أركان‭ ‬شعورك‭..‬
إنها‭ ‬أن‭ ‬يراكِ‭ ‬أولادك‭ ‬أقوى‭ ‬مخلوقٍ‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وأنت‭ ‬أضعف‭ ‬الخَلق‭ ‬حين‭ ‬يقضم‭ ‬القلق‭ ‬كيانك‭ ‬كلّه‭ ‬إن‭ ‬مسّهم‭ ‬أيّ‭ ‬ضرر‭..‬
إنّها‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لك‭ ‬مخالب‭ ‬لحمايتهم،‭ ‬وقفازاتٍ‭ ‬من‭ ‬مخمل‭ ‬وحرير‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تخدشي‭ ‬جلدهم‭ ‬الطريّ‭.. ‬
ما‭ ‬أصعب‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬أمّهات‭..  ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬يمرّ‭ ‬الوقت‭ ‬كالسحر‭ ‬ليكبر‭ ‬أولادنا‭ ‬ويقووا،‭ ‬ونرجوا‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬يتجمّد‭ ‬كالسحر‭ ‬أيضاً‭ ‬كي‭ ‬يبقوا‭ ‬في‭ ‬حضننا‭ ‬صغاراً‭ ‬ضعفاء‭ ‬محتاجين‭ ‬لدفء‭ ‬حناننا‭.‬
نريد‭ ‬لأولادنا‭ ‬أن‭ ‬يتقنوا‭ ‬كلّ‭ ‬فنون‭ ‬الحياة‭: ‬أن‭ ‬يقرؤوا‭ ‬وحدهم،‭ ‬ويأكلوا‭ ‬وحدهم،‭ ‬ويمشوا‭ ‬في‭ ‬طرقات‭ ‬الكون‭ ‬وحدهم،‭ ‬وفي‭ ‬داخلنا‭ ‬نريدهم‭ ‬أن‭ ‬يبقوا‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬أولئك‭ ‬الأطفال‭ ‬مورّدي‭ ‬الخدود‭ ‬ببيجاماتهم‭ ‬الملوّنة،‭ ‬جالسين‭ ‬في‭ ‬أحضاننا‭ ‬يسألوننا‭ ‬للمرة‭ ‬الألف‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬الأميرة‭ ‬النائمة‭ ‬والساحرة‭ ‬الشريرة‭ ‬قبل‭ ‬النوم‭.‬
نفتخر‭ ‬بسماع‭ ‬طفلنا‭ ‬يزهو‭ ‬بأنه‭ ‬كبر،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬محتاجاً‭ ‬لحمايتنا‭ ‬من‭ ‬جنون‭ ‬الرعد،‭ ‬ونريد‭ ‬في‭ ‬سرّنا‭ ‬أن‭ ‬نصرخ‭ ‬معترفين‭ ‬بأننا‭ ‬اشتقنا‭ ‬لصوت‭ ‬قدميه‭ ‬الحافيتين‭ ‬يركض‭ ‬نحو‭ ‬سريرنا‭ ‬خائفاً‭ ‬باحثاً‭ ‬عن‭ ‬حضننا‭ ‬وأماننا‭..‬
نريد‭ ‬أن‭ ‬تقوى‭ ‬أجنحتهم‭ ‬ولا‭ ‬نريدهم‭ ‬أن‭ ‬يطيروا‭ ‬بعيداً‭ ‬عنّا،‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬يشقّوا‭ ‬لأنفسهم‭ ‬دروباً‭ ‬تشبه‭ ‬أحلامهم،‭ ‬ولا‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬تقودهم‭ ‬تلك‭ ‬الدروب‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬أبواب‭ ‬بيوتنا‭.‬
‭ ‬نحلم‭ ‬برؤية‭ ‬ابنتنا‭ ‬عروساً‭ ‬تفيض‭ ‬سعادة،‭ ‬ونبكي‭ ‬في‭ ‬صمتٍ‭ ‬لأننا‭ ‬نريدها‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬معنا‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬لتنام‭ ‬في‭ ‬سريرها‭ ‬وذراعنا‭ ‬تحتضن‭ ‬عطر‭ ‬جدائلها‭..‬
نريد‭ ‬لأبنائنا‭ ‬أن‭ ‬يسافروا‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬الحياة‭ ‬أفضل،‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬المستقبل‭ ‬أجمل،‭ ‬ونختبئ‭ ‬كالأشباح‭ ‬في‭ ‬حقائب‭ ‬سفرهم،‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نسبقهم‭ ‬إلى‭ ‬الأسرّة‭ ‬لنقيس‭ ‬درجة‭ ‬دفئها‭ ‬وطراوة‭ ‬وسادتها،‭ ‬وأن‭ ‬نتسلل‭ ‬إلى‭ ‬قلوبهم‭ ‬لنتأكد‭ ‬من‭ ‬سلامتها‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬خدش‭..‬
ما‭ ‬أصعب‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬أمهات‭.. ‬نعجن‭ ‬من‭ ‬سنابل‭ ‬الضوء‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬أبنائنا‭ ‬قمح‭ ‬قوّتنا،‭ ‬وتعتم‭ ‬دنيانا‭ ‬إن‭ ‬لمحنا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬العيون‭ ‬غيمةً‭ ‬عابرة‭.. ‬نغزل‭ ‬من‭ ‬ابتسامات‭ ‬وجوههم‭ ‬شال‭ ‬الطمأنينة‭ ‬لنفوسنا،‭ ‬وننهار‭ ‬قلقاً‭ ‬إذا‭ ‬لمحنا‭ ‬خلف‭ ‬الابتسامة‭ ‬دمعاً‭ ‬لم‭ ‬يبوحوا‭ ‬به‭..‬
تحتاج‭ ‬الأمومة‭ ‬إلى‭ ‬صلابة‭ ‬فولاذية،‭ ‬وإلى‭ ‬رقّة‭ ‬جناحي‭ ‬فراشة‭.. ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬شلالات‭ ‬حنان‭ ‬غامر‭ ‬وقوّة‭ ‬بركان‭ ‬ثائر‭..‬
مخطئٌ‭ ‬من‭ ‬يظنّ‭ ‬أنّ‭ ‬مخاضنا‭ ‬بأولادنا‭ ‬ينتهي‭ ‬مع‭ ‬انتهاء‭ ‬آلام‭ ‬الولادة‭.. ‬ليست‭ ‬الولادة‭ ‬سوى‭ ‬بدء‭ ‬مخاضنا‭ ‬الأبديّ،‭ ‬وكلّما‭ ‬كبر‭ ‬أولادنا‭ ‬وابتعدوا‭ ‬كلّما‭ ‬ازدادت‭ ‬آلام‭ ‬الانفصال‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭.. ‬
كان‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عون‭ ‬قلوب‭ ‬الأمهات،‭ ‬فحبّهم‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬اندفاعه‭ ‬يجرح،‭ ‬وألم‭ ‬جروحهم‭ ‬تلك‭ ‬هو‭ ‬أعظم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭.‬