الحر شديد. قالب الآيس كريم الذي أرسلت في طلبه ذاب. حبات الشوكولاتة التي تزين كريما الشانتيي تحولت إلى بقع بنية سائلة امتزجت ببياض الكريما، وعام المزيج في الكأس الزجاجية الأنيقة التي قدم فيها القالب. تقلبت أمعائي وأنا أتأمل ذلك. كان عليَّ أن أطلب ساندويتشاً للغداء، كالعادة، أو أن أحمل بعضي وأذهب إلى المطعم.
مكتبي غير مكيف. شرفه الواسعة مفتوحة لكن الهواء راكد في الخارج. الواجهة الزجاجية الفخمة التي تقابلني تطل على ساحة الحي الإداري. أستطيع أن ألمح من مقعدي النافورة العملاقة التي تتوسطها. بودي لو أستطيع أن أرمي نفسي فيها. جسدي يتصبب عرقاً، وربطة عنقي التي خففت عقدتها تخنقني. وأنا جائع. ومتوتر. وحائر. وملف السفر الذي تسلمته منذ يومين يتوسط طاولة المكتب، ويذكرني بأن عليَّ أن أتخذ قراراً سريعاً قبل أن يفوت الأوان.
المشكلة إياها تتكرر. يتهيأ لي أنني أعيش نفس الأحداث كل يوم. مدير الشركة الذي صار يعتمد عليَّ أكثر من أي شخص آخر يرسلني مكانه لأغطي مهمة خارجية، وزوجتي تتذاكى وتجد لي ما يبقيني جنبها. والأعذار كثيرة ومتنوعة. والحال يسوء كل مرة أكثر.
أبعدت كأس الآيس كريم الذائب، وتناولت ملف السفر وشعوري بالاختناق يزيد. أسبوع في لندن. فرصة جيدة لتثبيت مكاني في الشركة. لأول مرة سأنوب بشكل قانوني كامل عن المدير وأوقّع على عقد الصفقة مع عملائنا الإنجليز مكانه. لم يسبق له أن أناب أحداً عنه للتوقيع مكانه. لكن أزمته الصحية الأخيرة هدت قواه. غادر المستشفى منذ أيام، ومنحني الكثير من الصلاحيات.
أسندت رأسي للمقعد وتحركت أمعائي من جديد. أنا جائع حقاً. كان من العبث أن أفكر بتناول مثلجات بدلاً من وجبة الغداء. نظرت لساعتي واتصلت بالكافيتيريا أطلب ساندويتشاً سريعاً. لديّ اجتماع بعد خمس عشرة دقيقة مع موظفي الإدارة. عليَّ بعدها أن أبتّ في أمر لندن، وأتصل بالمدير.
أدرت مقعدي يميناً ويساراً وأنا أفكر في زوجتي. هل انتبهت لغباء ما قالته أمس؟ خيرتني بينها وبين المدير. قالت كلاماً كثيراً. أنا تيار هواء. تراني نادراً، وتتعثر وحدها وسط واجباتنا العائلية وأمور البيت وطلبات الأولاد ومشاكل الحياة اليومية. وأنا... أنا منشغل بسفرياتي ومهماتي الخارجية وطلبات المدير وصفقات الشركة. أعصابها فارت عندما أخبرتها بسفرية لندن. ذكّرتني بحفلة افتتاح المعهد. لا يمكن أن أتخلف عنها خصوصاً بعد الساعات التي اختطفتها مني لتحضرني لها.
نسيت الأمر تماماً. الحفلة. الترتيبات...
منذ ما يقرب من العام، وزوجتي تستعد لافتتاح معهد موسيقى مع بعض زميلاتها. عملت في بداية زواجنا مدرسة بيانو، ثم انشغلت بالأولاد والبيت. ومنذ فترة وهي تكرر بأنها تود العودة للعمل؛ لأنها تشعر أنني، كما تقول، تركتها على الرف وانشغلت بحياتي المهنية.
المعهد سيقدم دروساً في الموسيقى والرقص، وزوجتي أجبرتني على تعلم بعض خطوات الفالس؛ لأرقص معها أثناء حفلة الافتتاح المذكورة.
حفلة ستقام خلال الأسبوع القادم. ولأنه لا يمكنني أن أتواجد في مكانين مختلفين في نفس الوقت، فعليَّ أن أختار بين المهمة التي كلفني بها مديري، وبين حفلة الفالس التي حضّرتني لها زوجتي.
طرق عامل الكافيتيريا الباب، ونظرت للساندويتش الشهي الذي أحضره بيأس، وتنهدت بامتعاض... لا وقت لديّ لتناوله. أحكمت عقد ربطة عنقي وارتديت سترتي. حان موعد الاجتماع. ولن أقدم مثلاً سيئاً للموظفين. لم يسبق للمدير أن تأخر مرة عن اجتماعاته، ولن أخالف عادته.
ترونية من زوجتي.. أقرؤها؟ لا أقرؤها؟
تنهدت وأنا أفتحها وأنعت نفسي بالأحمق.
توقفت بذهول وأنا أعيد قراءتها.
«لا يمكنني الحديث معك. هناك ضجة كبيرة هنا. لقد صدمتني سيارة وأنا بخير. لكن رجلي مكسورة. سيقومون بلفها بالجبس».
نادتني سكرتيرتي بصوت خافت. الجميع بانتظاري.
كتبت لزوجتي: «حمداً لله. قبلاتي».
وواصلت طريقي وأنا أبتسم. كسرت رجلها. معناها أننا لن نرقص الرقصة السخيفة إياها. وربما لن يكون علينا الحضور.
فرجت.
لندن بانتظاري.
قد تكون زوجتي محقة. أنا تيار هواء.