نظر إلى عينيها اللامعتين وغمرته فرحة طفولية عارمة. سرقت الأضواء التي خبت في عالمه.
«كل هذا العسل... أنا محظوظ...».
ضحكت عالياً، وأبعدت صحن المثلجات الأنيق وتناولت منديلاً ورقياً طبطبت به على شفتيها اللتين أحمرتا من لون عصير الفراولة الذي شربته.
«تقول هذا دائماً. لا أعرف إن كان عليَّ أن أصدقك...».
«يجدر بك ذلك... أنا مسن... تجاوزت سن الكذب والمجاملات...».
هو محظوظ حقاً، لأنها قبلت أن تراه... بعد كل ما قام به من حماقات.
استوى في جلسته وبلع أنةَ ألمٍ بصعوبة. لم يَعُد شاباً. مضى الزمن الذي كان يركض فيه ليل نهار. يحضر الاجتماعات ويتنقل بين المكاتب ويسافر ويسهر ويلهو ويبدل الحبيبات كما يبدل الجوارب. مضى زمن المغامرات، وركوب الزوارق الشراعية، والقفز بالمظلات، وحضور المهرجانات، وتتبع مواسم الموضة ورفع تحديات الأصحاب. السباحة في الأطلنطي في عز البرد ومطاردة جميلات المدينة.
«شكراً. هل تريد أن أحدثك عن آخر أخبار الكلية؟».
أنصت لها بفرح وهي تعدد له مآزقها اليومية في كلية الطب. طريقتها في الحكي شيقة. يعرف أنها تبالغ عمداً لتثير مرحه. يرى عينيها العسليتين الجميلتين تبرقان كما لو أن بهما سحراً كلما تطلعت إلى ملامحه الضاحكة. تحب أن تراه يتسلى... تحب أن تشعر بأنها أدخلت شيئاً من البهجة والحب في عالمه. وهو لا يمنعها عن ذلك. بل بالعكس.
حين بدأ يلتقيان، بعد أن غفرت له هجرانه الطويل، كانت تنتظر إعلان لائحة المقبولين في كلية طب الأسنان. وحين زفت إليه خبر قبولها، دعاها لتناول غذاء فخم في أحد أرقى مطاعم المدينة، ومن يومها وهما يتقابلان هناك. مائدتهما المطلة على جانب منزوٍ من الشاطئ معروفة للنادل الذي صار يتقدمهما إليها كلما عتبا المكان.
ليت شبابه يعود... فكر وهو يتابع ثرثرتها اللذيذة. لا يصدق كيف أمضى كل هذا العمر بعيداً عنها.
رفعت عينيها فجأة وتوقفت عن الكلام... ثم همست: «ماما... ما الذي أتى بك إلى هنا؟».
حبس أنفاسه والتفت ببطء إلى السيدة القادمة نحوهما.
«أنسيت؟ سيغادر عمك المستشفى اليوم، يجب أن نذهب إليه، حاولت الاتصال بك مراراً... ألا تنتبهين إلى هاتفك أبداً؟».
وقف بصعوبة وألم الروماتزم ينخر ساقيه وظهره.
«مرحباً راضية. كيف حالك؟ وحال... زوجك؟».
رمقته ببرود وردت «بخير، شكراً. عفواً ولكننا يجب أن نذهب. لقد تأخرنا...».
«طبعاً، بالتأكيد... أرجو... أرجو أن يتعافى بسرعة...».
«بابا... «قالت جميلته ذات العينين العسليتين» سأتركك الآن. سأكلمك لاحقاً... هاه؟ نلتقي الأسبوع القادم كالعادة... «قبلت وجنته وهمست في أذنه: «أحبك بابا...».
ابتعدتا. وبقي واقفاً ينظر إلى ابنته... وزوجته السابقة.
المرأة التي هجرها وابنتهما رضيعة... وانغمس في مغامراته ولهوه وطيشه الجنوني.
كانت تلك أكبر غلطة اقترفها في حقها وحق ابنته وحق نفسه أيضاً. ماذا بقي له بعد كل هذا العمر...؟ عيشته الوحيدة... عزلته... آلام الروماتزم... ذكريات الماضي التي ولت إلى غير رجعة؟
البنت كبرت في غيابه، وأمها تزوجت وبَنت أسرة جديدة. أصحابه تفرقوا... منهم من مات ومن رحل إلى وجهة أخرى. راتبه المجزي أضاعه في سفرياته ولهوه وعيشه بالطول والعرض.
معاشه يغطي مصاريفه... ولكن عيشته تخنقه.
اقترب النادل يسأله إن كان يريد شيئاً آخر.
طلب قهوة مرة، وجال بناظريه بألم في الزبائن المتحلقين حول موائد المطعم. عائلات وشباب وزوج من المسنين، في عمره، يتحدثان بصوت عالٍ وهما ينظران إلى الناس المتمشين على الشاطئ.
كان من الممكن أن يكون مكانهما، هو، وراضية وابنتهما...
تجرع قهوته المرة وتملكته رغبة عارمة في البكاء.
