«لم لا تقم بجولة في المكان... بانتظار إصلاح لوحتك. سيأخذ الأمر بعض الوقت...» قال لي العامل وهو ينزع غطاء اللوحة الإلكترونية. لا شك أنه يمزح. رمقته لحظة وتنهدت وأنا أشيح بوجهي.
يوم منحوس. أولاً... صرفت السائق بعد الغذاء. المطعم لا يبعد كثيراً عن الشركة، وأنا مللت التنقل بالسيارة صباح مساء. ثانياً... بدأت تمطر أول ما اجتزت ميدان الوسط التجاري باتجاه الحديقة المترامية أسفل ساحة الأمم، حيث كنت أود أن أتمتع لحظة بتأمل أسراب الإوز العائم وسط بحيرة الحديقة. وثالثاً... قررت لوحتي الإلكترونية التي لا تفارقني أن تتوقف عن العمل فجأة... وتنطفئ.
«ظهيرة ماطرة... ها؟» قال العامل وهو يعبث بمحتويات اللوحة «هناك مقهى قريب... يُطل على الساحة. لو كنت مكانك لألقيت نظرة عليه...».
واصلت تجاهله. تناولت قهوة في المطعم، بعد الغذاء. لا رغبة لي في شيء... غير إصلاح لوحتي. هناك أمور عليَّ متابعتها عبرها.
«صاحبة المقهى لطيفة... والحلويات التي تُعدها أسطورية... همم... البتي فور بالفانيلا والشوكولاتة... يذوب في الفم كقطع السكر...».
العامل الثرثار مُصرّ على طردي من المحل. رفعت عيني إلى السماء وأنا أسمعه يردد: «خذ استراحة هناك. نصف ساعة على الأكثر وتجهز لوحتك. اطلب فنجان قهوة وتحلية. بتي فور حسب المذاق الذي يعجبك. لن تندم... صدقني. وصاحبة المقهى اللطيفة ستعجبك... أنا متأكد...».
رمقته بصرامة ثانية وغمز لي بخبث. اللعين. لا أدري ما الذي يدور في ذهنه الفاسد، ولكنني لم أعد أطيق البقاء قربه.
توجهت نحو مدخل المحل الأنيق. عندما تعطلت لوحتي وسط ساحة الميدان، دلني الأشخاص الذين سألتهم عن مكان قريب لإصلاح الأجهزة الإلكترونية على هذا المحل. عماله حاذقون وكفاءتهم يُضرب بها المثل.
لا زالت تمطر. رذاذ خفيف وكثيف بلل ما تبقى من جفاف بدلتي الكشمير. دسست أصابعي في شعري. بلله هو الآخر واضح جداً. أحتاج فعلاً لمشروب دافئ. نظرت حولي ولمحت تراس مقهى قريب. بساط من الخضرة تتناثر عليه موائد وكراسي أنيقة. قماش شماسي مخطط بالأبيض والأخضر يغطي التراس، تحده من الأطراف أحواض زهور مختلفة الأشكال والألوان. زنابق وورود وياسمين وفل ونرجس وعباد شمس. أنا، عاشق الأزهار المولع بفرادتها، وجدت نفسي أتحرك كالروبوت نحو التراس الجميل الذي يبدو مهجوراً في هذه الظهيرة الماطرة. ألقيت نظرة نحو الداخل الغاص بالزبائن. الجميع هرب من البرد والمطر.
اخترت زاوية جانبية في التراس. وجاءت النادلة تأخذ طلبيتي.
قهوة المحل ممتازة. كابوتشينو مخملي لذيذ، مرفوق بطبق بتي فور بالفانيلا والشوكولاتة، كما نصحني عامل المحل. حلوى تلمس اللسان كجناحي فراشة ناعمة الملمس، وتذوب برقة ولطف، مخلفة فيضاً من النشوة والمتعة والامتلاء.
أغلقت عيني بسعادة وأنا أحتسي القهوة وأتناول الحلوى وأستمتع بمنظر المطر.
وجاءت.
وشعرت بأنني أفقت من غيبوبة سنين.
لم أعد أشعر بأنني أضعت ظهيرتي في انتظار إصلاح لوحتي الإلكترونية.
لم أعد أفكر في موظفي شركتي الذين ينتظرون اجتماعي المفترض بهم في العصرية، ولا في سائقي الذي يترقب تعليماتي منذ صرفته بعد الغذاء، ولا في إيميلاتي التي لم أطلع عليها منذ تعطلت اللوحة.
لم أعد أفكر سوى في الحظ الجميل الذي طرق بابي.
صاحبة المقهى اللطيفة التي جاءت ترحب بالزبون الجديد.
فتاة أحلامي كما لم أتخيلها أبداً. جميلة كالقمر، مشرقة كالورود، لطيفة كنسمة الربيع الدافئة، أنيقة كفتاة غلاف خلابة المنظر... وجالسة على كرسي متحرك مثلي.