لم تعد الملامح بالأبيض والأسود، ولا الأحلام بالأبيض والأسود، ولا المواقف بالأبيض والأسود؛ فالألوان طغت على التفاصيل الدافئة حتى أفسدتها، وهدمت تلك المنطقة الوسطى التي كانت بمثابة مساحة اختبار لنصاعة الأبيض، وقتامة الأسود!
فالألوان لا تكون دائماً وسيلة لإضافة الجمال على التشوهات الخارجية، ولا هي دائماً خطوط الضوء التي تمنح المساحات المعتمة أضواء إضافية؛ فأحياناً قد تكون الألوان عبارة عن مساحة من العتمة تختفي فيها الكثير من الحقائق الجميلة، التي كانت ستبدو أجمل لو أنها لم تتعرض للعبة الألوان.
فلعبة الألوان لا تنجح في التجديد دائماً، وقد لا يفوز فيها إلا أولئك الذين يغادرون حكاياتهم بأقل الجروح وجعاً، وربما لهذا أخفقنا نحن بعد كل هزيمة مؤلمة لقلوبنا في التسلل إلى لوحة من الألوان الجميلة؛ كي نلون بها قلوبنا، ونعلن عليها بداية جديدة؛ فنحن كنا أقل قدرة على التلون بمجموعة من الألوان تقدمنا للعالم الخارجي بشكل أجمل وأقوى!
لذا غادرنا بوجوهنا الحقيقية، وتعايشنا مع حقيقة الفراق بوجوهنا الحقيقية، وبدأنا حكاياتنا الأخرى بوجوهنا الحقيقية!
فلعبة الألوان لم تكن ذات أهمية لأرواح لازالت تؤمن بأهمية الوضوح، وتتجنب السقوط في تلك المنطقة الوسطى التي تُفقدها هويتها وشخصيتها الحقيقية.
فالألوان لا تُجمل المساحات البيضاء دائماً؛ فأحياناً تضيف إليها الكثير من الزيف الذي يكون بمثابة قناع ملون على وجه تختلف ملامحه عن ملامح القناع تماماً.
فنحن قد نحتاج للألوان وبشدة حين نكون في مهمة تنكرية لإخفاء جرح ما، أو للتظاهر بالنسيان أمام زخم من الذكريات النابضة فينا.
فالألوان قد تكون أحياناً عبارة عن أقنعة صلبة، أو حكاية زيف، أو أكذوبة مزخرفة، أو خديعة متنكرة بثوب الفرح، تطرق أبوابنا على هيئة حلم ملون طال انتظاره.
لكن ماذا عن المساحات والمواقف والأحلام قبل الألوان؟
ربما كانت ستصبح أكثر صدقاً لو أنها بقيت بالأبيض والأسود؛ حيث لا وجود لمنطقة وسطى تكون محايدة أو مخادعة أو غيرَ واضحة الانتماء.
فالمساحات تعددت باختراع الألوان كما تعددت المواقف، وأصبحت هناك مساحات عدة لكل منها أهميتها ودورها وموقفها المختلف.. ولم تعد هناك منطقة وسطى بين لونين.. بل أصبحت هناك مناطق كثيرة بين ألوان متعددة.. وأصبح الانتماء وانتقاء المساحة المناسبة أصعب!
قبل النهاية بقليل:
إنها الألوان.. عالمنا الآخر الذي قد لا يمت لواقعنا الحقيقي بصلة!