كيف نخلق بداية مغايرة من نهايةٍ تبخرّت؟ ونحن الراقدون في المجاز!
بعض العبارات التي نكتبها بفعلِ الجرح، تصلح بأن تكون عنواناً لكتابٍ ما، لحكايا مؤقتة، لحدثٍ نرتب تفاصيله بعناية دقيقة، أو حتى مطلع لأغنية ناقصة، بعض العبارات تختصرنا بشكل كامل دون أن ننبس ببنتِ شفة، وهذا الأمر ملهم بقدرِ خطورته.
حسناً فلأعترف: لا أذكر قط بأني قد تمكنت سابقاً من كتابة فكرة واضحة عن النص الذي أريد كتابته، لطالما تركت الأبواب مشرّعة بوجه الأفكار المارقة وحتى الراقدة في سباتها؛ لأنها قد تنهض قبيل الكلمة الأولى أو بعدها، وقد لا تستيقظ أبداً، لكن سكونها وموتها المؤقت، يحيي الكثير غيرها في داخلي، فهكذا دون أن أدرك عن ماذا سأكتب، أجدني قد بدأت بكتابتي، بكتابة الآخرين، بكتابة العدم، وأنا في قمة الغرق. ويا له من غرق!!
أتلذذ كثيراً بحيرتي، بكل هذا التخبط والقلق الذي أستنزفه بالبحث عن كلمة أبني عليها مزاجيتي، فزعي، شحوبي، خوفي، جنوني، تمردي، ثورتي، غيرتي، انتظاري، انكساري وانتصاري؛ حتى تجسّد الشعور الذي لم أستطع التصريح به أمام الملأ، لكن هذه الكلمة تفعل ذلك نيابةً عن صوتي وعني، فالكتابة صوتٌ لا يمكن إخراسه بأي شكلٍ كان.
الكتابة كالقضيةِ التي لا تنتهي، إلا بموتك، فهي نزيفٌ دائم، استمرارٌ لحيواتٍ لم نكن لندركها لو لم نكتبها.
الصخب الذي يضطرب بين حواف الورق وهوامشه، بين الكلمات العالقة في الشفاه وفي المخيلة، هو كل ما يحتاجه الكاتب حتى يتصالح مع اللغة على هيئةِ نصٍ ساحر.
ثمة من يكتب وهو مغيّب عن الوجود، وثمة من يكتب وهو يحتضر، والبعض الآخر لا تجده يكتب إلا من أجل التجمهر والهراء. وحده من يكتب من أجل الحياة والموت هو منْ يسعى للخلودِ بأكثر الطرق أناقة.