لعبة المرايا

مريم شمص

كانت كلّما نظرت في المرآة، ترى كلّ شيء ما عدا صورتها.

مرآتها مشوّهة، تحتلّها المرايا: مرايا الآخرين...

مرايا كثيرةٌ: مرآةٌ تضطر لتلميعها قسراً كلّ يوم، عليها انعكاسُ وجه صديقتها المقرّبة، أو بالأحرى تلك النرجسيّة التي ظنّتها مقرّبة.

مرآةٌ غائمةٌ بضبابٍ كثيفٍ، تراكم من صقيع خيبتها بأحدهم، ضبابٌ معتمٌ حاجبٌ للرؤية، لا يخترقه ضوءُ وجهها.

مرآةٌ عتيقةٌ تكسوها خيوطُ العنكبوت، علقت عليها كلّ الجمل التي سمعتها من الآخرين عن نفسها منذ طفولتها وصدّقتها، تلك الجمل التي حالت بينها وبين صورتها إلى الأبد.

ومرآةٌ بزاويةٍ مكسورةٍ، كسرتها في لحظة غضبٍ أخرس، حين لم تجرؤ يومها على الصراخ والقول: "أريد وجهي".

بينها وبين مرآتها أربعون سنة من سوء التفاهم، أربعون سنة من القطيعة، وأربعون ألف خيبةٍ وخيبَة.. بينها وبين مرآتها أربعون ألف محاولة للبحث عن وجهِها  الذائبِ بين الوجوه التي احتلّتها.

بينها وبين مرآتِها صورُ الآخرين وأفكارُهم ومقارناتُهم وآراؤهم فيها. أيديهم التي رسمت لها ملامحَ وجهٍ ليس وجهَها، ملامحَ ابتسامةٍ ليست لها، ملامحَ شخصيةٍ لا تشبهها!

والأهم الأهم، بينها وبين مرآتها مرايا الآخرين المهشّمة، تلك التي كي لا تجرحَ أطرافَ أصابعهم، رموها بعيداً عن قلوبهم، رموها فوق وجهِها، وجهها هي. كم مرّةٍ لملمت بيديها العاريتين شظايا الزجاج؛ كي تميطَ أذاها عمّن تحبهم، كم مرّةٍ وقفت دامية القلب بين وجوههم المشوّهة وبين مراياهم؛ كي تضيءَ لهم صورتَهم وتجمّلها. كم مرّة خلعت وجهها وأعارته لحبيبٍ فقد وجهَه في صراع الصور والمرايا. لكنها اليوم، تريد وجهها هي، تريد مرآتها هي، تريد نفسها.

هي اليوم قويّةٌ، ستفكك بأظافرها خيوطَ العنكبوت، وستمزّق عن حبالها العفنة كلّ ما سمعته عن نفسها وصدّقته يوماً ما. ستمسح كلّ ذاك الضباب الخانق، فصقيعُ الخيبات المتراكمة صقيعٌ عابر، سيزيحه دفء ثقتها بنفسها وبجمال روحها وبأحلامها القادمة.

لن تكون شريرةً، لن تنثر شظايا الزجاج في وجوه من أدموا أصابعها، هي فقط ستعيد لهم مراياهم المكسورة، وليواجهوا بنفسهم صورَهم الحقيقية، فترميمُ الوجوه لم يعد مسؤوليتَها بعد الآن...

هي الآن حرّةٌ، خفيفةٌ من أثقال كل الحطام الذي تراكم من حولها حتى أصبحت جزءاً منه. هي الآن جميلةٌ، وجهها في المرآة يشعّ ابتساماتٍ باهرة، هي الآن جميلةٌ وتعلم أنّها لم تكن يوماً غير ذلك، كانت فقط لعبةَ مرايا، كانت فقط لعبةً قذرةً أتقنها الآخرون في حياتنا.

جميعُنا جميلاتٌ، كلّ ما في الأمر أن بعضَنا أُعطِينَ مرايا ليست لهنّ. لا تصدّقي المرايا، ولا نوايا مانحيها، صدّقي عينيك. صدّقي همسَ روحك حين تنظرين في السطح النقيّ الذي يليقُ بك. أنت جميلة، كلّ ما تحتاجينه لرؤية ذلك: مرآةً نقيّة كقلبك.