الماضي يعود غداً..

مريم شمص
مريم شمص
مريم شمص

فكرة أننا سنكون المحطّات الأكثر تذكّراً في ماضي أطفالنا، فكرةٌ ساحرة، عظيمةٌ، وفي الوقت نفسه مرعبة!
فكرة أننا نصنع، جزئيّاً إن لم يكن كلّيّاً، ماضيهم، ذكرياتهم، أصواتهم الداخليّة، لحظات حنينهم المستقبليّة، رعشة قلوبهم حين سيسترجعون طفولتهم في عُمرٍ مقبلٍ لن نكونَ معهم فيه بمعظمه، فكرةٌ فيها من الرهبة ما يُرهق الروح والعقل..
إنّها حقّاً مسؤولية عظمى أن نعي مدى أهميّة اختياراتنا في صنع ماضي أولادنا وكذلك مستقبلهم.
في البدء نحن من نختار أسماءهم، ذلك الوشم الأول الذي سيلتصق بكينونتهم مدى الحياة سواء أحبّوه أم لم يحبّوه.. نحن من نختار مدارسهم، طرقاتهم الأولى، نزهاتهم المبكرة، الشخصيات الأولى في حياتهم..
نحن من نبني الواجهة الزجاجية التي سيرون من خلالها العالم للمرّة الأولى، ونحن المسؤولون عن مدى نظافة هذا الزجاج، ونقائه، وطريقة انعكاس الضوء عبره نحو أعينهم البريئة.. نحن من يقرّر أي نوافذ نفتح أمام عقولهم، وأي أبواب نشرّع لحواسّهم، وأي زوايا نختار ليتعرّفوا من خلالها إلى المعاني الأوّليّة للحياة.. مع كلّ ما يعنيه ذلك من دور مصيريٍّ في بناء القاعدة الأساسيّة لنظرتهم لأنفسهم وللآخرين وللعالم من بعدها.. 
فكرة أننا من نصنع "ماضي" أولادنا، الذي سيؤثّر بشكلٍ حاسمٍ على مستقبلهم؛ فكرةٌ حقّاً مخيفة!!
فأصواتنا ستكون الموسيقى الخلفيّة التي يعزفها لا وعيهم في الكثير من مشاهدهم الحياتية.. وظلال وجوهنا ستصبح اللمسة الخفيّة في اللوحات المعلّقة على جدران أحلامهم دائماً.. وسنكون حتماً في عمق انطباعاتهم التي سيكوّنونها عن الناس، وعن الكون، وعن الوجود.. 
كلماتنا ستعلق في نسيج ذاكرتهم.. الكلمة الطيبة ستكون عطراً دافئاً في هذا النسيج والجارحة ستسبّب أصداء ألمٍ خفيف مزمنٍ لا يهدأ بمرور الزمن..
دعمنا لهم في الصّغر سيمنحهم القوّة الأبديّة، سيحملون آثار عناقاتنا الحنونة على أكتافهم دائماً، ستكون هذه العناقات الشال السحريّ الذي سيدفع عنهم برد الوحدة مهما طال العمر.. تماماً كما سيحملون آثار خذلاننا المبكر لهم عبئاً يثقل ظهورهم مهما اشتدّ عودهم أو استقام..
النظرة التي يرونها في أعيننا حين نرمقهم أطفالاً سيرونها في مراياهم دائماً مهما كبروا، ومهما بلغ حجم تلك المرايا ونقاء بلّورها، أو فخامة إطارها..
ستنبت لهم أجنحةٌ جبّارة في المستقبل، لو كلّمناهم عن رحابة الأفق وعن متعة الطيران، وسينكفئون كصوصٍ ضعيف إن شكّكنا بمتانة ريشهم وقوّة إرادتهم..
الماضي لا ينتهي، بل يعود غداً بأشكال مختلفة! فإن أحبّ أطفالنا غداً تلك الحياة التي كانت تسمّى "ماضيهم"، سيحبّون حتماً أنفسهم، وسيحبّون الأشخاص الذين كنّاهم في حياتهم في ذلك الماضي..
فلننتبه، ونحن نجهد في صنع ما نظنّه حاضر أولادنا الآن، أننا نصنع أيضاً ما سيصبح ماضيهم، ذكرياتهم، صوت لا وعيهم وألوان الحديقة الخلفيّة لذكرياتهم.. تلك الحديقة التي فيها تُزرع الأحلام ويُزهر المستقبل، تلك الحديقة الخفيّة التي سيظلّون فيها أطفالاً الى الأبد، وسنظلّ نحن فيها آباءهم إلى الأبد...