لطالما راودتني في طفولتي أسئلة غريبة مع نهاية كلّ عام... كيف ينتهي عامٌ ويبدأ آخر؟
كيف تتوالى السنوات؟ هل تمشي بنا الحياة ونحن واقفون مكاننا، تماماً كما نقف على السلّم الكهربائي المتحرك، نبقى ثابتين وهو يتحرّك، نمرّ بالأيام والأعوام؟.. أم نحن من نمشي بلا توقّف في عالم ثابت لا يتحرك، نصنع بحركتنا تغيّر الأعوام ونتغيّر نحأ ايضاً مع كلّ محطّة جديدة؟..
وحين كبرتُ، فهمتُ أننا نحن من يختار الإجابة.. نحن من نقرّر أي احتمالٍ نريد أن نعيش، فإمّا أن نختارَ موقع المتفّرج المسالم الذي يترك نفسه للحياة وتغيراتها، تجري به من دون تدخّل منه.. وإمّا أن نختار موقع قائد الدفّة، نقرّر الطريق ووجهة السير ونحاول تحديد اتجاهات سنينا المتتالية..
وكلّما كبرنا، صرنا نعرف أكثر.
نعرف.. كيف نتقبّل الوداع، وكيف نتقن فنّ الترحيب بالجديد.. حتى لو كان مانودّعه أجمل وأعذب وأقرب إلى قلوبنا..
نعرف.. كيف نختار طرقاتنا، وجهاتنا، رحلاتنا، ورفاقنا فيها... كيف نؤمّن زاد الطريق وكيف نحسب خطوط العودة كلّما أمعنّا في الابتعاد..
نعرف.. كيف نغادر الأمكنة التي لا تشبهنا حتى لو كانت عروقنا مربوطةً في جذوعها، وكيف نرحل حين يكون الرحيل بدايةٌ للوصول إلى حيث يجب أن نكون.. وكيف نضرب جذورنا عميقاً في الأرض التي نعرف أننا سننبت فيها أقوى وسنطرح زهراً وثمراً..
نعرف.. كيف نختار معاركنا وكيف نخرج منها بأقلّ الخسائر إن لم نكن منتصرين.. وكيف ننسحب حين يكون الانسحاب عزّة نفس وذكاءً وحكمةً..
وكلّما مرّت بنا الأعوام أو مررنا بها، نتعلّم.
نتعلّم أن نقاتل من أجل أحلامنا، فالأحلام التي نؤجّلها بانتظار اكتمال احتمالات تحقيقها تذوي وتموت.. وأن نتقن عيشَ مشاعرنا، فالمشاعر التي ندجّنها ونعيد صياغتها لتشبه الواقع أكثر تذبل وتبهت ألوانها..
نتعلّم أنّ ما من شيء يدوم.. أنّ كلّ شيء عابرٌ ومؤقّت.. طفولة أبنائنا ووجوههم المدوّرة الناعمة وقبلاتهم المرشوشة على وجوهنا من دون حساب في كلّ وقت.. سحر البدايات في قصص حبّنا وصداقاتنا والعلاقات التي ظننّاها يوماً لن تنتهي.. شغفنا في الحياة الذي يفقد نجمةً من بريقه كلّما اصطدم بعوائق الحقيقة.. أحضان أجدادنا وكلمات حبّهم التي لن نسمع ما يشبه موسيقاها أبداً من بعدهم.. شباب آبائنا وقوّتهم، صحّة أمهاتنا وأمانينا المستحيلة بأن يبقين بكامل عافيتهنّ إلى جانبنا للأبد..
نكبر ونتعلّم بأننا كلّما مشينا أكثر في هذه الحياة، ازدادت مكاسبنا، وتراكمت خسائرنا.. نكسب بسرعةٍ أموالاً وإنجازاتٍ وأحلاماً تتحقق.. ونخسر ببطءٍ ما كنّا نظنّ امتلاكه بديهيّاً ودائماً؛ فنحن نكبر ويكبر معنا أولادنا ويبتعدون، ويكبر معنا أهلنا ويرحلون، ويكبر معنا أصدقاؤنا ويتفرّقون..
هكذا هي الحياة، تراكم أرباح وتراكم خسائر.. نمشي سويّةً وبالتوازي.. لا مجال لواحدنا من دون البقيّة. والأكثر حظّاً منّا من تجاوزت مكاسبُه خسائرَه، ولو إلى حين..
وعلى أمل أن نكونَ من أولئك المحظوظين، ليس بوسعنا إلّا أن نتمنى لنا جميعاً عاماً لطيفاً رحيماً بقلوبنا.. وكل عامٍ وكلّنا بخير..