عند الحديث عن المثقف، لا بد أن يكون لديك إطار محدد ترسم من خلاله نسيج ذاك المثقف وأبعاده الاجتماعية، والسياسية، والوجدانية، والإنسانية، وكل تصنيف يساعد على تحديد مسار هذا المثقف من أين يبدأ، وكيف يستمر، وعلى ماذا ينتهي به الأمر من تحديد ماهيته، وتشخيص قضيته، ومدى تمسكه أو تدهور علاقاته بدائرته؟
قد يكون تعريف المثقف مختصراً في مميزاته، ولكنه بالتأكيد أكثر تعقيداً من كونه محدوداً على الوصف، ومنغلقاً بالزمان والمكان نفسهما.
من هنا، قد يقع الكثيرون في الخطأ نفسه من حيث توجيه مكانة المثقف، والتضييق على اختيار الأنسب بناء على معايير تناسبت مع حقبة معينة وظلت مستمرة تكتسح سائر معايير الثقافة، حتى لو ظهرت العصرنة على تلك المعايير؛ إذ ستكون المواجهة ضعيفة من جمود الاختيار وتثبيت المعايير، فيصعب في نهاية الأمر الانتقال من حقبة إلى أخرى، وتبني مثقفي اليوم بشكل أكثر استقبالاً وترحيباً من معايير ظلت في زمانها ومكانها.
وبالتأكيد، يظل هناك من الفلاسفة من يؤيد التغيير بمفهوم المثقف، وهناك من يضعه في دائرة المصلحة، وآخر يوهمه بأنه صاحب قضية من دون بعد واقعي لقضيته.
يتفق الفلاسفة عامة، من وجهة نظري، على عدم وجود مثقف حقيقي؛ ذلك بحكم عدم ثبات المعايير على مر الزمان. ومن مؤيدي واقعية هذا التعريف الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا، حينما نظر إلى المثقف على أنه من أبناء البشر العاديين، ممن يسعون وراء النهوض بأوضاعهم واهتماماتهم الشخصية، فلا وجود في هذا الحال للمعايير الخالدة، فلذلك نجد أن بيندا جرد المفهوم من المثالية بشكل واقعي، على الرغم من تضييق دائرة المثقف نوعاً ما بإطار المصلحة!
من اللفتة السريعة حول المعايير التي نضعها للمثقف، نأتي إلى الوقت الراهن وطرح السؤال على أنفسنا بشكل مباشر، بدلاً من الاستدلال دائماً بالتاريخ، كيف نمارس نحن دور المثقف، وهل فعلياً اختلفت المعايير لدينا للتعريف به في زمننا المعاصر؟ وهنا، سأقاوم قدر المستطاع التضييق على المثقف، ولكن أجده فاعلاً أكثر بحسب الأدوات التي يعبر من خلالها الموضوع نفسه، ويطرح التساؤلات، بل تكون له أيضاً أبعاد مستقبلية وأخرى حصرية.
بل أعود لأركز مرة أخرى على تنوع الوسائل والأدوات التي تتيح تمييز المثقف عن الآخر، والتي تساعده على تجسيد أعماله وآرائه بشكل أكثر ملامسة للواقع وقرباً للتأثر الجماهيري.
ما نلامسه اليوم بين فئات المثقفين يعدّ حرباً لا منتصر فيها من وجهة نظري، إنما يغلب على الأمر مسألة التحدي بالأقدمية، وجلد الآخر المعاصر بمعايير لا تتلاءم مع محيطه.
ولكن، يظل اللغز واضح حله من حيث تنوع المثقفين بحسب اختلاف الأداة المستخدمة، التي يعبر من خلالها عن قضيته أو اهتماماته من ضمن ذائقته الخاصة، أو مناصرته لمبادئه.
لذلك، يجب أن تستمر الثقافة بغرس غايتها بين كافة الأجيال؛ كي تكسب النفوس الجديدة لانضمامها في الدائرة الثقافية، فدعنا نهتم بالتأثير بدلاً من جلد الآخر بالتهميش!
فلتطمئن عزيزي القارئ، فالثقافة ليست حصراً في أحد، ولن تكون دعوة خاصة ترسل إليك لتنضم إليها.
حان وقتك أن تكون المجسد لمفهومك كونك مثقفاً!