كان ذلك في أواخر ثمانينيات القرن العشرين حين اكتشفت مجلّة "سيّدتي". مجلّة تزيّن واجهة مكتبتين عريقتين في مدينة قليبية حيث أزاول تعليمي الثانويّ. والحقّ كنت مشدودة إلى مجلاّت أخرى أنتظرها انتظار الجائع للرّغيف. مجلاّت زادها من الثّقافة عموماً ومن الأدب والحضارة خاصّة أوفر وأدقّ. بيد أنّ مجلّة "سيدّتي" تشدّ الناظر بغلافها الجميل، وسيّدات الغلاف الأنيقات، وعناوينها المثيرة. وكنت أراني طفلة أبعد ما أكون عن تلك الوجوه ذات القيافة والحلاقة العالية الجودة. وكنت طفلة أبعد ما أكون عن المشاهير من الفنانات والممثّلات. فأنا من وسط ريفيّ فلاحيّ أبعد ما أكون عن المجوهرات والأحجار الكريمة. وكنت صغيرة أبعد ما أكون عن عالم الطبخ والموضة. فجلّ اهتماماتي الكتب والكرّاسات والحقل وانتظار الصّباح وتشييع اللّيل. فأغادر المكتبة محمّلة بعاداتي من شراءات ما تيسر من ولائم الأدب، تاركة السّيدات في مجلّة "سيّدتي" للناظرين والنّاظرات، تغزوني الألوان والصور والأخبار. حتّى إذا عدت إلى المنزل أجد مجلّة "سيّدتي" تتصدّر ما يوضع على طاولة في ركن من غرفة الجلوس. فأضحك تلقائيّاً. أتركها هناك، فأجدها هنا!
مجلّة تشتريها أختي، ويتصفّحها كلّ من في المنزل! كلّ يأخذ منها نصيبه. فمنّا من يهيم بالنّجوم وأخبارهم. ومنّا من يذهب رأساً إلى باب الموضة والأزياء والألوان... أخبار المجتمعات وسيّدات المجتمعات. حتّى قال أبي - رحمة اللّه عليه – لابدّ من مجلّة "سيّدي".
فمن تكون "سيّدتي"؟
باختصار، اسْتُخْدِمَ المصطلح طيلة ثلاثمائة سنة خلت عند نساء من الطبقة الاجتماعيّة المرموقة. وفي سياقات عديدة لاحقة زمنيّاً بات المصطلح يستخدم لأيّة أنثى بالغة. ومع ذلك بقيت للتسميّة دلالاتها الأخلاقيّة ومكانتها الاجتماعيّة. فمريم العذراء سيّدة. والمتمكّنات من النّساء سيّدات بمال وجمال وحسب ونسب، هي الحظيّة بمنزلة ومكانة زادها الجمال والتّمكين. فرضت أن تجلّ بتحيّة يستخدمها الرؤساء والوجهاء "السيّدات والسادة".
في مجلّة "سيّدتي" أفق واسع من إطلالات لسيّدات من المجتمع العربي يعكسن بنشاطهن وآفاقهن وطموحاتهن رغبة المرأة العربيّة عموماً في أن تكون ندّاً للرّجل اجتماعيّاً وثقافيّاً وسياسيّاً، وأن تبرز اهتماماتها من دون أن تلغي خصوصيتها وكونها الأنثويّ.
تلك الطفلة الّتي لم تجد في مجلّة "سيّدتي" مأرباً، أصبحت امرأة. وأدركت حاجتها لمجلّة تقرأ على عجل في قطار أو سيارة، في حديقة عموميّة أو شاطئ فيها من تنوّع الأركان والمواضيع ما يضمن ديمومتها وتجدّدها، وتقريب صدى المجتمعات قبل الرّقمنة.
وما زاد "سيّدتي" قرباً لي ولغيري ممّن أعرف من نظيرات، أنها ركن منه أطلّت علينا كاتبات عربيات شهيرات من سيّدات القلم بقضايا نسويّة بأقلام نسائيّة. فتوطّدت مشاغل المرأة بقلم المرأة. فلا يمكن أن نلغي حاجة السّيدة إلى تنوّع يعادل مشاغلها واهتماماتها ومواكبتها للعصر وقضاياه انطلاقاً من اهتمامها بذاتها وأنوثتها وهواجسها وصخبها النابع من صخب الكينونة عموماً.