بعد رفقة عشر سنوات، انتهت قاروة عطري فخرجت للتسوّق بحثاً عنه. كان عطراً مميزاً في كل شيء. كأنّه وضع على مقاسي.. مستخرج من الورد الطبيعي. شكل القارورة بين وردي وذهبي لم أر أجمل منه إلى الآن. بقي معي عشر سنوات كاملات، لم أغيّره. منذ متى كنّا نغيّر فريقاً ناجعاً؟
مرّ اليوم الأول من دون جدوى... ومرّ الشهر الأول... تجاوزت المدينة الأولى، ثم الثانية... ثم سافرت إلى "مولات" العاصمة أبحث عنه... ثم طلبت من أخواتي وصديقاتي وكل من علمت أنه مسافر أن يحضر لي قنينة من المطارات أو محلات إيطاليا وفرنسا وإنجلترا... كل هذا وأنا مطمئنة إلى قرب اجتماع شملي بعطري الحبيب. وصلني الرد منهم جميعاً: لم نعثر له على أثر... أصابني الهلع... راسلت الدار التي تصنعه في باريس وكلي أمل... فجاءني ردهم الصاعق: لم نعد نصنّعه للأسف... لا... لست مهووسة ولا مريضة تسوّق... أنا لست جاهزة بعد لتخطّي عطري..
لست أدري بشأنكن، سيداتي الجميلات وآنساتي، ولكنّني لا أغيّر فريقاً رابحاً. وأعتقد أنّ العطر لمسة شديدة الخصوصيه في حياة المرأة... هو علامتها المسجلة... هو مرآة شخصيتها وبصمتها الفارقة... ليس من السهل ان تتخلى عنه أو تغيره... ليس لقلة العطور الجميله في اﻷسواق... ولكن لأن المرأة إذا اقتنت عطراً ما، واستعملته لفترة يتطور وضعه عندها من مجرد عطر ضروري لإتمام مكونات أناقتها، إلى رفيق حميم جداً يلتصق بجلدها ويحتضنها برفق من دون إلحاح، ويصبح صورة عنها... فبمجرد أن يشمّ المحيطون بها ذلك العطر يعرفون أنّ فلانة كانت هنا، أو مرت من هناك... يتذكرون ملامحها وكلماتها وطيفها.. لكن الأخطر من هذا كله أن ذلك العطر يصبح تدريجياً رفيقاً صامتاً يعيش معها كل مراحل حياتها بحلوها ومرّها... وترتبط رائحته بذاكرتها "الشمّية"، بكل الوجوه التي مرت عليها، وكل اﻷحداث التي عاشتها، وقد حدث أن عطّرت معصمي عمداً لأعود بالزمن إلى الوراء فأتذكر أمكنة دخلتها وأشخاصاً قابلتهم وعشت معهم أحداثاً فارقة في حياتي، أو لأستعيد محادثات وأفكار قلتها أو أوقيلت لي ونسيتها، فساعدني العطر على تذكّرها وإخراجها من منطقة الكُمون.
العطر يمكن أن يتحول عند المرأة إلى عنوان للسعادة والامتلاء والحياة والحب، إذا امتدحه حبيبها. وقد يتحول كذلك إلى كابوس بمجرد أن تنتهي علاقتها بذلك الحبيب لأنه يذكرها به.
يمكن للعطر كذلك أن يكون رفيقاً وفيّاً يتموضع في نفس فريق المرأة فيدعمها ويدعم ثقتها بنفسها في مواجهة ظروف الحياة الصعبة.
ترسخت عندي قناعة أن المرأة لا تغير عطرها الذي اختارته إلا في حالتين، أولاهما أن تتوقف دار العطور على تصنيع ذلك العطر بالذات، كما حصل معي ، وثانيتهما أن المرأة نفسها قد تجاوزت مرحلة ما من حياتها ولا تريد أن تعود إليها مجدّداً، تمهيداً لمرحلة أخرى قادمة بمعنويات وقرارات مغايرة.
المشهد النهائي في قصتي: أنا منذ انتهاء آخر قوارير عطري المفضل أجول في المحلات بلا جدوى علّني أعثر على عطر جديد يرافقني في مرحلة من حياتي لم أكن بعد مستعدّة لها.
نعم... لم يكن مجرّد عطر... كان قصّة حياتي.