نكبر بهدوء كما يجدر بنا أن نكبر، نلعب على خشبة مسرح الحياة أدوارنا براحة.. وننسى أنّ ثمّة من بصلابته يثبّت الأرض تحت أقدامنا كي لا تهتز، بأن ثمة من يقف خلف الكواليس يراقب متانة الجدران من حولنا، وسلامة خطواتنا كلّما تحركنا..
تغضب الشمس فلا نخاف، ويزمجر المطر فلا نجزع، موقنين أن سقفنا قويّ متين.. ولا نتذكر أنّ هناك من يرفع بساعديه سقف البيت، ويسير به وبمن فيه، ليبقى السقف فوق رؤوسنا أماناً وحياة..
يغمر الدفء عالمنا، ولا نرى أنّ وراء هذا الدفء أكفّاً تسدّ الثغرات والشقوق كي لا يتسرب منها ريح أو عواصف..
يلفّ طفولتنا الهدوء، فنستمتع كأن الدنيا مكان لا شيء فيه سوى السلام، ولا ننتبه أن هناك بطلاً يخوض المعارك في الخارج عنّا ولأجلنا، فلا يعكّر صفو سلامنا غبار حروب..
نجد من حولنا حدوداً من زهر ومن ورد، تحمينا وتحدّد طريقنا، فنحسب الحدود قيوداً وأسواراً، ونتأفّف من عطر الزهر متذرعين أنه يخنقنا، ولا ندرك أن تلك الحدود صُنعت لصالحنا، وأنّ تلك الورود استغرقت عمراً لزراعتها حولنا، وأنّ خارج إطارها ستبدأ الأشواك، وسيضيع العطر قي زحمة الروائح..
نكبر قليلاً، فنظنّ أنّ العالم الذي صنعه آباؤنا أضيق بكثير من أحلامنا.. وأنّهم من عالم لا يشبه العالم الذي نريده، فعقولهم لا تشبه عقولنا، وأفكارهم لا تشبه أفكارنا، وأننا نريد أن نتحرر ممّا نعدّه صناديق تعلّب حرياتنا.. لنكتشف بعد ذلك أنّ ذلك العالم هو الجنّة التي نخرج منها متأففين لنشتاق دفئها وفيئها لبقيّة أعمارنا كلّما لفحنا قيظ العمر، وأنّ ما ظننّاه صناديق تقيّد أحلامنا ما هو إلا العلب الملونة السحرية التي سنلجأ إليها كلّما أرهقتنا رمادية الحياة وظلامها..
وحتّى حين نطير بعيداً عن أحضان آبائنا، ننسى أننا نطير بأجنحة خيطت بنسيج قلوبهم، واشتدّت بقوّة حبهم وتعاظمت بفعل رعايتهم، وأننا لولا فضلهم لبقينا عاجزين عن التحرّك لا نقوى على التحليق..
يحتفل الجميع بعيد الأم؛ فيحفظ الأطفال القصائد لأمهاتهم، يلونون لهنّ البطاقات، يرقصون لهن على مسارح المدارس، يحارون في اختيار الهدايا، يملؤون الدنيا حبّاً وتعبيراً.. وعندما يأتي عيد الأب، يحتفل البعض في صمت أو خجل، صمت يشبه الآباء الذين تعوّدوا على العمل في صمت، والتضحية في سكون.. وخجل يشبه خجل قلوبهم في التعبير عن حبهم الجارف..
فلنحتفل بآبائنا، فلنعانقهم، ولنشترِ لهم الهدايا، ولنكتب فيهم القصائد، ولنلقِ على أسماعهم كل عبارات الحب والتقدير.. فلنغمرهم بالعرفان، فلنكرمهم ولندلّلهم ولنطلب رضاهم ولنسعَ لمنحهم كلّ سبل الراحة والسعادة في كبرهم.. فلولا الآباء ما كبرنا، ولا سعدنا، ولا بدأنا مشوار العمر متكئين على أكتافهم، متّكلين على صلابة أذرعهم إن تعثّرنا...
فمن كان والده حيّاً يرزق، فليستمتع بوجوده قربه، فليستأنس في ظلّه وليتبارك بمسك أنفاسه.. إنها نعمة عظمى أن يمتدّ العمر بآبائكم لتروا شيبهم وتجاعيد جباههم.. نعمة حُرِم منها الكثيرون باكراً فأحسِنُوا صيانتها..