عمّقت التكنولوجيا الحديثة من الفجوة الموجودة بين الأب والابن أو الابنة، وجعلت لكل منهما نمط عيش وتفكير مغايرين، فكيف يمكن الحدّ من هذه الفجوة، ومن منهما يجب أن يقوم بتنازلات لتعديل الكفّة؟.. في الآتي لقاءات مع شباب وشابات للحديث حول الموضوع بصراحة ووضوح.
بيروت | عفت شهاب الدين Ifate Shehabdine
تصوير | محمد رحمة Mohamad Rahme - تمّ التصوير في The Fit House Gym - بيروت
جدة | ولاء حداد Walaa Haddad - تونس | منية كواش Monia Kaouach
الرباط | سميرة مغداد Samira Maghdad - القاهرة | أيمن خطاب Ayman Khattab
التركيز على التفهّم والاحترام
مي أحمد شرابة: يجب بذل جهود مشتركة من الطرفين
تشير مي أحمد شرابة (26 عاماً)، ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية، إلى أنه «لا شكّ في أن التكنولوجيا الحديثة بسطت أيديها على شتّى نواحي الحياة، وأحكمت سيطرتها على جميع المجالات، وامتدّت آثارها لتشمل أيضاً العلاقات الاجتماعية والعائلية، مخلّفة بذلك فجوة حقيقية، ومشكلة تواصل وتفاهم بين الآباء وأبنائهم، فما بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها لتقليص هذه الفجوة وتعزيز التفاهم والتواصل؟
إن هذه المسألة تتطلّب جهوداً مشتركة من الطرفين، فيجب التركيز على التفهّم والاحترام، لا سيما من قِبل الأبناء لآبائهم، وتقبّل وجهات نظرهم وتجاربهم على مرّ السنين، ومن وجهة أخرى يجب على الآباء أن يتفهّموا حاجات أبنائهم، وأن يحترموا خصوصيتهم واستقلاليتهم. من ناحية أحرى، ينبغي التركيز على وجود تواصل فعّال بين الشباب والآباء، وأن يسعوا إلى خلق حوار مفتوح وصادق؛ حيث يتيح لكل منهما التعبير عن آرائهم بحرية، وبذلك يقدّم الوالدين الدعم اللازم لأبنائهم. ولتبقى الخطوة الأهم، ألا وهي خلق توازن فعّال بين دور التكنولوجيا ودور الآباء، وبالتالي تقديم التنازلات من الطرفين، فيقوم الآباء بتوجيه أبنائهم، وحثّهم على استخدام التكنولوجيا بشكل واعِ ومتوازن، وأن يتفهّم الأبناء خوف آبائهم من تأثير التكنولوجيا ومخاطرها المحتملة.
وأخيراً، يجب أن تبقى التكنولوجيا وسيلة ترابط بين العائلة مهما كان أفرادها متباعدين، وألا نسمح لها أن تلتهم الوقت والتفاعل والتواصل الحقيقي بين الآباء والأبناء، ويبقى السؤال: إلى أي مدى سيبقى الأهل قادرين على السيطرة واحتواء أبنائهم في ظل التطوّر السريع والمتنامي للتكنولوجيا؟».
الأجيال تختلف
خالد المصري: الأب هو الشخص الأكثر وعياً
يعدّ الشاب اللبناني خالد المصري (21 عاماً)، مدرب شخصي وإجازة في العلوم الرياضية، أن «للتكنولوجيا أثر كبير في الحياة اليومية والشخصية لكل منّا، حتى باتت اليوم تدخل في صلب العلاقات الأسرية، وهذه مشكلة يواجهها معظم الأسر بصراحة؛ لأن الأجيال تختلف بطبيعة الحال مع مرور الزمن، وتحديداً بين الأب وابنه؛ ما يسببّ فجوة كبيرة في حال كان فارق العمر بينهما كبيراً، والعكس صحيح في حال كان الفارق صغيراً، وهنا قد ينعكس بشكل إيجابي على علاقتهما، ويتمكّن الأب من تدارك الأمر، ويحسن التصرف والتعامل مع ابنه». ويضيف خالد في حديثه قائلاً: «للتخلص من هذه الفجوة العميقة برأيي، لا بدّ أن يؤدي الأب دوراً كبيراً في هذا الموضوع؛ لأنه الشخص الأكثر وعياً، والمفروض منه أن يتقرّب من ابنه أكثر وأكثر، ويستوعبه، ويتشارك معه القصص التي يحبها مهما كان نوعها، ويتبادلان الأفكار... أما الابن فعليه دور أيضاً، وهو تقبّل تقرّب أبيه منه. من دون أن ننسى بالطبع دور الأم هنا، وهو أساسي؛ لأنه مبني على التنسيق والتعاون بينها وبين الأب لتحقيق مصلحة الابن. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الفجوة لا بدّ أن تنتهي وتقفل تماماً مع الوقت في ظل المراقبة والمتابعة والتقرّب من الأبناء بشكل دائم، خاصة أنه في هذا الزمن الذي بات يرتكز على التكنولوجيا في مختلف المواضيع، تسلّلت هذه الأخيرة إلى قلب كل أسرة، وباتت تهددها اليوم في كيانها؛ حيث بات التواصل بين أفرادها شبه معدوم، إضافة إلى أن التكنولوجيا تؤثر بشكل سلبي في العلاقة بين الأهل والأولاد مباشرة؛ لأن العديد منهم يخسر الصلة الرابطة بينهم نتيجة الانشغال الدائم بالأجهزة الإلكترونية، كما أن الأهل يلهون الأولاد بها، فيبتعدون عنهم، ولا يمضون الأوقات معهم، في حين إن الأولاد يجدون في هذه الأجهزة الفرصة للانفراد، فتتكوّن لديهم منذ الصغر الشخصية الانعزالية، فلا يجيدون التعامل مع الآخرين. لا بدّ من التركيز على الرابط العاطفي بين الأب وابنه، وألا تغيب هذه العلاقة العاطفية بينهما للتقليل من تأثير التكنولوجيا في العلاقات الأسرية في الحوار والمحادثة، وعدم توسيع الفجوة والصراع بين الآباء والأبناء. فما المانع من عقد جلسات نقاشية واسعة خاصة بين الأب وابنه، يستعرض كل طرف مبرراته ومعاييره أمام الطرف الآخر بحرية، والاستماع لمختلف الأفكار والخبرات، والتعبير بحرية عن الرأي لإيجاد همزة الوصل والتقريب بين وجهات النظر، وتحديد وقت للتواصل واستخدام التكنولوجيا، فهذا أمر مهم من أجل التواصل مع الخارج».
يمكنك الاطلاع على جوجل يحتفل بيوم الأب
المهمة تقع على عاتق الأبناء
أحمد علي: بعد تعاوني مع والدي في هذا الجانب، صرت أقضي وقتاً أطول معه
من السعودية، أوضح أحمد علي 23 (عاماً)، مهندس حاسوب، أن الفجوة بين الابن وأبيه في التكنولوجيا الحديثة إحدى السمات السلبية لهذا العصر، مؤكداً أن تقليصها أمرٌ مهمٌّ، ويقع على عاتق الابن تحديداً. وحول الفجوة بينه وبين والده في هذا الجانب، وكيفية تصرفه لردمها، قال: «بحكم تخصُّصي في مجال الحاسوب والتكنولوجيا الحديثة، أقضي وقتاً طويلاً جداً في استخدام الأجهزة الحديثة بأنواعها، سواءً خلال عملي، أو عند قضاء أمور حياتي، أو حتى في أوقات فراغي؛ الأمر الذي أدَّى بشكلٍ غير مباشرٍ إلى إيجاد فجوةٍ تكنولوجيةٍ بيني وبين أبي، وعندما لمست هذا الأمر، بدأت العمل جدياً على تقليص تلك الفجوة، فأنا الابن، ويجب عليَّ أن أراعي والديّ، وأن أسعى إلى نيل رضاهما، وفكرت في طريقةٍ، تجمع بيني وبين أبي تحديداً في هذا الجانب، فصرت أجلس معه، وأسأله عما يحتاج إليه في مجال التكنولوجيا، لا سيما ما يساعده على إنجاز مهماته الحياتية، واكتشفت بهذه الخطوة، أن هناك الكثير مما يمكن أن أقدّمه له، وأصبحت أخصِّص وقتاً لتعليمه عدداً من الأمور الخاصة بالتكنولوجيا؛ ما ولَّد اهتماماتٍ مشتركة بيننا، وخلق محاور جديدة للحديث، لم نكن نتطرَّق إليها سابقاً». وأضاف علي، محدِّداً فوائد الخطوة: «اليوم، وبعد تعاوني مع والدي في هذا الجانب، صرت أقضي وقتاً أطول معه مقارنةً بالسابق، وهو وقتٌ ممتعٌ جداً، وأوجدت الخطوة صلةَ تواصلٍ رائعة بيننا، كذلك صار أبي يفهمني أكثر، ويعرف تفاصيل عملي، بل يشاركني أفكاري أيضاً، ويتابع معي إنجاز مهماتي».
الجهل بالتقنيات الحديثة ليس نقصاً
نغم الحمروني: مهما أفادتني التكنولوجيا فلن تصنع شرخاً بيني وبين والدي
تقول نغم الحمروني (20 عاماً)، طالبة تونسية سنة أولى اختصاص مساعد جرّاح: «أقضي وقتاً طويلاً في الدّردشة على مواقع التّواصل الاجتماعي، والإبحار عبر «الإنترنت»، فهو وسيلتي التّرفيهيّة والتثقيفيّة بامتياز، أشغّله من هاتفي الذّكي أينما أكون، فأستفيد ممّا يوفّره من معلومات قيّمة، تساعدني على دراستي واختصاصي العلمي وحياتي الشخصيّة. أشاهد أيضاً بانتظام أفلاماً ومسلسلات غربيّة على «الإنترنت» باللّغة الإنجليزية والفرنسية؛ ما ساعدني على إتقان هاتين اللّغتين وعلى نطق الحروف نطقاً صحيحاً».
لن تكون بديلاً من والدي
تتحدّث نغم عن والدها الذي لا يملك هاتفاً ذكيّاً، ولا يتقن تقنيات التّكنولوجيا الحديثة، مستطردة: «إن جهل والدي بهذه التّقنيات والأدوات التّكنولوجيّة لم يشعرني بتفوّقي عليه، فكلانا ننهل من المعرفة، مع اختلاف وحيد يكمن في الطّرق المتوافرة في عصرين مختلفين».
تتابع: «لا أنكر أنّ المنصّات الرّقمية أتاحت لي فرصاً للاطلاع على مضامين حديثة ومتنوّعة، وفتحت عينيّ عن عوالم جديدة، لكنّها لن تكون أبداً بديلاً من والدي، فأنا مدينة له بما حقّقته من نضج، فهو من علّمني كيف أنتقي أصدقائي، وهو من شجّعني على المبادرة، وعلى عدم التّفريط في حقوقي، وحثّني على إبداء رأيي».
يمكنك الاطلاع على الأب والتوازن بين العمل والحياة الشخصية
تنازلات متبادلة
ترى نغم أنّ من واجب الابن والأب أن يقدّم كلٌ منهما تنازلات ليقتربا من بعضهما، فعلى الأب أن يقبل أن يكون ابنه مختلفاً عنه، فقد دأب الشّباب على هذه التّكنولوجيات الحديثة، وتمّ تشجيعهم عليها منذ الصّغر، فتعوّدوا عليها، وألفوها، ووجدوا ضالّتهم فيها.
وأخيراً، تنصح نغم كلّ ابن أن يتخلّص من عقدة الاستعلاء، فلا يُنقص من شأن أبيه، ولا يسارع بالقول إنّه لا يشبهه، ولا يمكن أن يفهمه، بل عليه أن يبادر بالتقرّب منه، ومحاورته، وإقناعه بوجهة نظره بالبراهين والأدلّة.
أمّا عن نفسها فتقول: «تلقّيت تربية على أسس سليمة، وحظيت بحنان ورعاية كبيرة، وعوّدني والدي على التّواصل والنّقاش والمصارحة، فلن أتأفّف أبداً من نقده، ولن أستغني أبداً عن نصائحه وتوجيهاته، مهما مكّنتني التكنولوجيا الحديثة من مسالك جديدة للمعرفة والعلوم».
اختلاف الأزمنة
محمد الحاتمي الورياغلي: نتواصل باستمرار بشأن ما جد في هذا العالم المثير والمفيد
من المغرب، طرحنا الموضوع على الشاب محمد الحاتمي الورياغلي (22 عاماً)، طالب جامعي، فأجاب: «الفجوة بين الأب وابنه تحدث باستمرار؛ بسبب تفاوت الزمن ومتغيراته، فنحن لنا زمان غير زمان آبائنا، وغالباً ما يحدث اختلاف في الرؤى وتقدير الأمور بين الآباء والأبناء، وهو أمر شبه عادي في تقديري، حدث وسيحدث مع أجيال مقبلة. شخصياً لا أنظر إلى التكنولوجيا بشكل سلبي، فهي التي تمكني من التواصل باستمرار مع الوالد والعائلة والأصدقاء مهما بعدت المسافات. التكنولوجيا هي الوسيلة الناجعة التي تقربني أكثر وأنا في الغربة من والدي؛ حيث نتبادل المعلومات والأخبار في وقتها وحينها، خاصة ما يتعلق بمباريات كرة القدم العالمية؛ هوايتنا المفضلة معاً. للوالدين علينا حق، ولا بد من أن يكون الابن رفيقاً بوالده في مجال التكنولوجيا، والعمل على مساعدته على استغلالها والاستفادة منها، هذا واجب الأبناء. لا أعيش فجوة كبيرة مع الوالد بسبب التكنولوجيا، نتواصل باستمرار بشأن ما جد في هذا العالم المثير والمفيد. أحاول أن أستجيب لكل ما يطلبه مني، وإرشاده إلى تطبيقات مهمة أتقاسمها معه للإفادة. بل لعل وجودي خارج المغرب جعل من التكنولوجيا وسيلة ناجعة لتواصل أجدى بيني وبين الوالد، الذي يبقى بدوره ملماً ومهتماً إلى حد ما بالجديد، ليواكب التطور الحاصل باستمرار في هذا العالم. التكنولوجيا تجمعنا أكثر أحياناً، لكن عالم الشباب يبقى مختلفاً، والطفرة التكنولوجية فرضت نمط عيش جديداً لا مفر منه رغماً عن الجميع».
مواكبة التغيرات المستمرة
يرى عمر محمود، مهندس اتصالات حديث التخرج، أنه في ظل قفزة التطور التكنولوجي الحديثة، يجب على كل فرد أن يقوم بتحديث نمط تفكيره، ومواكبة التغيرات المستمرة في العالم التكنولوجي؛ إذ لا يمكن تحميل المسؤولية بشكل حصري للشباب أو الأجيال الأكبر سناً (الآباء).
ويوضح أن الشباب ينمون في بيئة تكنولوجية سريعة التغير، ويكونون عادةً أكثر استعداداً للاستفادة من التكنولوجيا الجديدة واستكشاف استخداماتها المبتكرة. ومن جانبهم، يمتلك الأشخاص الأكبر سناً خبرة ومعرفة قيمة يمكنهم مشاركتها وتبادلها مع الشباب. وبالتالي، يجب على الجميع -الشباب والأجيال الأكبر سناً- أن يتعلموا من بعضهم البعض، وأن يكونوا مستعدين للتكيف مع التغيرات التكنولوجية. يمكن للشباب أن يساعدوا الأجيال الأكبر سناً في فهم التكنولوجيا واستخدامها بشكل فعال، في حين يمكن للأجيال الأكبر سناً أن يقدموا النصائح والخبرة في التحليل النقدي والتقييم للتكنولوجيا، والتأكد من استخدامها بطرق ذكية ومسؤولة.
وعن الاختلاف بين نمط تفكير الشباب والآباء في ظل التكنولوجيا الحديثة يقول عمر: «هناك اختلافات عدة بين نمط تفكير الشباب والآباء؛ نتيجة للتغيرات السريعة التي تجري في عالم التكنولوجيا وتأثيرها في حياتنا؛ حيث يتعامل الشباب بشكل عام بسهولة مع التكنولوجيا الحديثة، بينما يواجه البعض من الآباء صعوبة في التكيف مع التغيرات التكنولوجية السريعة.
ويكون الشباب أكثر ثقة في استخدام التكنولوجيا، فيما يكون توجه الآباء أكثر حذراً، وقد يشعرون بالقلق تجاه استخدام التكنولوجيا الجديدة ومخاطرها المحتملة.
وعن الذي يجب أن يقوم بالتنازل عن نمط تفكيره، يشير عمر، بصفة عامة، يجب على الأفراد أن يكونوا منفتحين للتعلم والتطور، والاستفادة من تقدم التكنولوجيا، بغض النظر عن العمر. يمكن أن يكون هناك تبادل للمعرفة والتجارب بين الأجيال المختلفة لتحقيق التطور التكنولوجي وتحسين الحياة. يمكن للشباب أن يساهموا في أفكار جديدة ورؤى مبتكرة، بينما يمكن للأشخاص الأكبر سناً أن يقدموا الحكمة والمعرفة المكتسبة على مر السنين».
يمكنك الاطلاع على غياب الأب وأثره على سلوك الأبناء الاجتماعي