تشبه مواقع التواصل في أيامنا هذه شرفات المنازل.. هي شرفة موجودة في حياة الأكثرية منا، إن لم نقل كلّنا.. شرفة نتفنّن في ترتيبها وتزيينها لتبدو للناظرين إليها من بعيد أجمل وأكثر جاذبيّة.. نُبَروِز عليها صورتنا الأفضل، ونعلّق على جدرانها ابتساماتنا الأكثر إشراقاً، وكلماتنا الأقوى تأثيراً، ونحاول أن نظهر فيها الـ "أنا" التي نريد أن يراها العالم ويصدّقها، حقيقية كانت أم مُختَلَقة..
شرفة نخرج إليها كلّ قليل لنتفرّج على جيراننا في الصفحات المقابلة، لنراقب ماذا يرتدون، ماذا يفعلون، ماذا يقولون، أين يذهبون، وأحياناً حتّى ماذا يأكلون ويشربون، وأي ساعة ينامون!
نراقب منها كلّ من قرر أن يستعرض حياته أو أجزاء منها على الملأ، رغبةً منه بالتباهي أو جذب الأنظار أو حتى كسب بعض الأهمية.. أو سعياً لما تمنحه مواقع التواصل من إمكانية الظهور لدى أكبر شريحة ممكنة من الناس ليعيش وهم النجومية الزائفة والشعبية الوهمية، فيتوّج نفسه بعدها على ما يحلو له من العروش الافتراضيّة..
نتلصّص على أولئك المارّين عابري سبيلٍ على صفحات الآخرين، نشاهدهم من بعيد كما لو كانوا خلف واجهات زجاجية، نرى منهم فقط ما سمحوا بعرضه للعامّة محاولين جهدنا أحياناً لاستكشاف المزيد..
وهذه الجولة اليومية قد يقوم بها بعضنا مرّة واحدة يوميّاً وبعضنا الآخر مرّات متعددة، وقد يدمنها الكثيرون لتتحول إلى عادة متمكّنة لا فكاك منها، وإلى حاجة ملحّة للتعرّف إلى حياة الآخرين من ناحية، ولعرض ما تيسّر من حياتنا أيضاً من ناحية أخرى.
ولا ننسى مرحلة الانتظار.. حين تتحول هذه الشرفة المعدّة أصلاً للتسلية إلى مساحة للقلق والترقّب: كم شخص تفاعل مع منشوراتنا؟ وكم إعجاب حصدنا، وكم كلمة جميلة ألصقها أحد المارّين على صورنا التي عرضناها طمعاً بحصاد وافر من الجمل التي قد تسهم في تحسين نظرتنا لأنفسنا وارتفاع حالتنا المعنوية؟..
لا ننكر أنّه من الممتع أن نتسلّى بعرض صورنا التي نرى أنها جميلة، أو أفكارنا التي نجد أنها جديرة بالمشاركة مع أصدقائنا ومعارفنا.. فهذا نوع من أنواع التواصل الإنساني الصحّي الذي يحتاجه كلّ فرد. فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي ويحتاج للتبادل والمشاركة.. فلا ضير في أن ننتظر بعض الإطراء على مظهرنا في الصور فيتعزز شعورنا بالثقة.. ولا في أن نتشارك مع غيرنا أفراحنا ونتلقّى عليها التهاني فيزداد فرحنا، أو نجاحاتنا وإنجازاتنا فنستقبل عليها التبريكات ونشعر بالرضا والاكتفاء المعنوي، أو حتى أحزاننا فنقرأ عبارات المواساة والدعم التي قد تشعرنا بأننا محاطون بمحبّين متعاطفين فيخفّ حزننا أو ألمنا..
لسنا ضدّ مواقع التواصل الاجتماعي حين تحقق تواصلاً سليماً ولا يتسبب بالضرر.. ما يهمّ فعلاً هو ألا نسمح لها بالسيطرة على مشاعرنا والتحكّم في نظرتنا لأنفسنا على أيّ صعيد، ولا أن يصبح شكل تفاعل الآخرين مع صورتنا المعروضة على الفضاء الافتراضي هو الطريقة الوحيدة لتقييم أنفسنا أو غيرنا، ولا أن يسرقنا هذا العالم الوهمي من الحقيقة، فيصبح هو الحقيقة ولا نعود قادرين على تصديق غير ما يفرضه على أذواقنا وأبصارنا وبصائرنا..