«الحياة مدرسة»، هكذا يتردّد على لسان الكثيرين ممّن يعتقد أنهم اختبروا الحياة بمواقفها وتجاربها إلى حين أعلنوا بأنهم «تخرّجوا في مدرسة الحياة». اليوم، لم تعد هذه المقولة مجرّد نظرية، وإنّما تحوّلت إلى واقعة ملأت الفراغ الذي كان مصدر النطق بها.
نعم، هناك بالفعل «مدرسة الحياة» وأحد فروعها «The School of Life Paris»، ومقرها الدائرة التاسعة في قلب العاصمة الفرنسية باريس، أما شعارها فهو بناء «أفكار إيجابية لحياتنا اليومية». «Good Ideas for Everyday Life».
هذه الطاقة الإيجابية التي تسعى مدرسة الحياة لنشرها، تلمسها منذ اللحظة الأولى التي تطأ قدمك بابها. ففي أثناء زيارتنا الميدانية، لفتتنا طريقة الاستقبال؛ فاني أوجيه Fanny Auger، الاختصاصية في علم اللغات الحديثة والعلوم السياسية ومديرة School of Life Paris، والتي تقوم بدورها بإعطاء الدرس الخاص بـ«كيف نقيم محادثات أفضل؟»، ترحّب بالطلاب الذين لا يتعدّى عددهم ثلاثين طالباً ما بين نساء ورجال، ومن مختلف الفئات العمرية، يجتمعون بحضور الأستاذ أيضاً قبل بضع دقائق من بدء الصف في حوار تفاعلي، «نستشفّ من خلاله طاقة إيجابية جماعية، وفي الوقت ذاته فرصة لعدم الشعور بالوحدة»، على حدّ قول فاني أوجيه. هكذا يرسم هذا الحوار الخطوات الأولى لتهيئة الطلاب لتبادل الخبرات والآراء؛ بغية التوصّل في النهاية إلى إقامة نمط حياة إيجابي، يرتكز على «مساعدة كل شخص ليتعلّم كل ما فات تعلّمه في المدرسة»، كما أوضحت فاني. من هنا، فإنّ الباكورة الأولى -إذا صحّ التعبير- التي تسعى لخلقها مدرسة الحياة هي الاحتكاك مباشرة بالحياة اليومية، الغوص بأدقّ تفاصيلها، ومحاولة إيجاد إجابات واضحة لكل علامة استفهام تقف نصب أعيننا حول محور معيّن من محاور حياتنا المختلفة.
تساؤلات في الحياة
من منّا لم يتساءل يوماً كيف يجد المهنة التي يحلم بممارستها؟ كيف يطوّر علاقته بالآخر؟
كيف يجعل الحب يدوم ويستمر؟ كيف يفهم الماضي ولا يدعه يؤثر على الحاضر؟ كيف يغذّي علاقات الصداقة؟ كيف يحافظ على هدوئه في مختلف المواقف التي تواجهه؟ كيف يطوّر قدرته على الفهم والاستيعاب؟ إلى حدّ التساؤل كيف يمكن أن يغيّر العالم ويوجّهه نحو المسار الأفضل؟
أسئلة كثيرة ترتبط بحقيقة وجوده في هذه الحياة والواقع الذي يعيشه، حقيقة هذا الصراع الخفي بين ما يمتلكه من قدرات ذاتية قد تكون مخفية وما يمكن أن يقدّمه لوطنه. أسئلة وجودية وكونية تطرح على مقاعد مدرسة الحياة على مدار ثلاث ساعات، يتمّ خلالها إقامة نقاشات بين الطلاب والأستاذ من جهة، من خلال عرض آراء في الموضوع (محور الحصة) وعرض صور تعنى بالموضوع، ومقتطفات فيديو لأشخاص اهتمّوا في هذا الموضوع، ويشاركون في عرض تجربتهم، ونقاشات ما بين الطلاب أنفسهم من جهة أخرى. ثلاث ساعات يقوم خلالها الاختصاصيون من مجالات مختلفة بتقاسم تجربتهم مع الآخر، ومساعدته لاكتشاف قدراته الذاتية من جهة، وكيفية إدارة ذكائه العاطفي من جهة أخرى، بشكل فردي وجماعي في آن واحد. ثلاث ساعات تفتح الباب أمام كل شخص آمن بفكرة دخوله إلى مدرسة الحياة لإيجاد الجواب الذي يلبّي هدفه المرجوّ. وعليه، لا تسعى هذه المدرسة إلى طرح أفكار مركّبة، ولا إلى إعطاء جواب موحّد، وإنّما وضع الشخص على السكة التي تحفّزه لاستخلاص الجواب الذي ينبع من ذاته مباشرة، مهما كانت ثقافته الدينية، والسياسية والاجتماعية. وهنا يوضّح الأستاذ جيروم فريزيرا مولي Jérôme Frizzera-Mogli أنّه يسعى من خلال الصفّ الذي يديره «كيف نجد المهنة التي نحلم بها؟» إلى مساعدة الشخص في إقامة التوازن بين العقل والقلب، وأن يسمح أيضاً لمشاعره في مشاركته أيّ قرار، مضيفاً: «في المدرسة بمفهومها الأكاديمي كما في المؤسسات، يتمّ التركيز على العقل، أمّا في مدرسة الحياة، فنحن نسعى إلى جعل العاطفة إحدى الركائز في تحديد خياراتنا. فالإنسان كائن بشري وليس آلة ميكانيكية».
مدرسة الحياة بوصلة
هكذا تبدو مدرسة الحياة بوصلة، توجه حياة كل من يقصدها نحو المسار الذي يضمن له نمطاً إيجابياً في الحياة؛ كي لا يبقى كائناً تائهاً في طرقات الحياة اللامحدودة. وهذا ما نستشفه من خلال آراء بعض الطلاب، فإيمانويل، وهي سيدة في الثامنة والثلاثين من عمرها، ومديرة في إحدى المؤسسات الباريسية، سبق وشاركت في عدة صفوف منها: «كيف نقيم محادثات بطريقة أفضل؟» «هل يجب أن نبقى وحدنا أم في علاقة مع شريك؟»، «كيف نحافظ على استمرارية الحب؟». وقد وجدت أنّ الدروس إيجابية وفعالة، كذلك بالنسبة للجوّ الذي تصفه بالإيجابية «نخرج من الصف ونحن مبتسمون». هذا وأكّدت إيمانويل أنّ الأجوبة ليست مركّبة، وإنما نحاول استخلاص الأجوبة بذاتنا؛ استناداً إلى شروحات الأساتذة المبنية على ثقافة شاملة، سواء بعلم الاجتماع أو الفلسفة أو حتى الروحانية حول أسئلة تتعلّق بالوجود والكونية. وهو الأمر الذي اعتبرته إيمانويل من الوسائل المهمة في إضفاء غنى ثقافي، وعدم الشعور بالذنب، ويفسح المجال أمامنا للانطلاق نحو آفاق أوسع في مجال التطور الذاتي وفرص العمل.
الاتجاه الصحيح
وأثنت ستيفاني، في السابعة والعشرين من العمر، وتعمل مسؤولة عن تصميم واجهات محلات شانيل، على أن مدرسة الحياة تساعد في التوجيه بالاتجاه الصحيح، و«تضع أمام أعيننا قصصاً كثيرة في الحياة، لم تكن تخطر على بالنا بشكل جدي، منها كيفية إقامة محادثات أو حوارات أفضل، أو حتى زيادة الثقة في النفس». وهما المحوران اللذان شاركت ستيفاني بحضورهما، قائلة: «قد ساعدني بالفعل الصف في كيفية إقامة محادثات أفضل في عملي، وكيفية المحافظة على تفاعلية إيجابية مع صاحب العمل من جهة، كما مع الأشخاص الآخرين الذين ألتقي بهم، كما سمح لي بالتحكّم أكثر بردّات فعلي». وأضافت ستيفاني أنّه رغم ثقتها بنفسها إلا أنّ الإنسان يراجع دائماً حساباته، وقد ساعدني صف كيفية زيادة الثقة بالنفس في تعزيز ثقتي بنفسي أكثر فأكثر، لاسيّما أنه عرّفني عن قرب على ذاتي، وما أمتلك من معطيات لم أكن أعرفها.
نموذج لمركز علاجي
هذه هي «مدرسة الحياة»، التي جاءت لتظهر أنّ فكرتها لم تأت من العدم، هي بالتأكيد لن تكون المدينة الفاضلة في العصر الحالي، وإنما هي هيكل تربوي، ونموذج لمركز علاجي يحاول من خلاله الطاقم الإداري والتعليمي تحفيز الطالب؛ للتطلّع إلى الحياة بنظرة إيجابية، وتغذية منطقه بأفكار إيجابية مهما كان انتماؤه الديني، أو السياسي أو الاجتماعي. ولربّما يأتي اليوم الذي تصبح فيه هذه المدرسة، التي أطلقها الفيلسوف السويسري آلان دو بوتون Alain De Botton عام 2008 في لندن، وذاع صيتها في بلدان عديدة، منها باريس في نيسان/أبريل 2014، لعلها تصبح هي النموذج الذي يجب أن تسعى الدول العربية لوضع خطة عمل لاستيراده؛ من أجل استثمار كل طاقات أبنائها الإيجابية، وتحدّ بذلك من هجرة الأدمغة التي تُفقد البلاد رأسمالها الحقيقي، ألا وهو أبناء الوطن الذين هم أبناء الحياة. فبمجرد أن نهيّئ الإنسان ليكون قائداً ناجحاً لحياته، فإنّنا بذلك نبني وطناً ناجحاً، تحكمه القرارات الصائبة والتخطيط الإيجابي.
ـ تاريخ التأسيس: في لندن، هو شباط 2008م، وفي باريس في 23 نيسان 2014م.
ـ عدد الأساتذة 8، وقريباً سيصبح العدد 12.
ـ أكثر من 2500 شخص أتوا وشاركوا في الصفوف، وهناك أشخاص قد شاركوا في أكثر من صف.
ـ بدأت الصفوف للمرة الأولى في 23 نيسان 2014م، وستنتهي في كانون الأول 2014؛ ليعاد استكمالها في بداية كانون الثاني 2015م.
ـ الصفوف تعمل من الاثنين حتى الجمعة، من السابعة مساء وحتى العاشرة ليلاً.