عرفتها واحدة من رائدات النهضة النسائية، خصوصاً في مجال التربية.
وقد كان للمرأة دور كبير في نشر العلم، وخصوصاً في تأسيس معاهد للفتيات.
<<<
وكان اللقاء لاستعادة ذكراها، وأسلوبها المميّز في إدارة واحد من أهم معاهد الفتيات في بيروت: المدرسة الأهلية. وهي السيدة وداد المقدسي قرطاس، ابنة العلاّمة أنيس الخوري المقدسي، أحد الروّاد المؤسسين للتربية الحديثة، وخصوصاً تعليم اللغة العربية.
<<<
لكن الست وداد لم تكن معلّمة عادية.
صحيح انها بدأت حياتها في التدريس، ومنذ ان كانت طالبة جامعية، إلاّ أنها حملت مهارتَها التربوية الى بغداد، حيث أصبحت أستاذة في دار المعلّمات. وفي تلك الفترة سافرت وفود من المدرّسات اللبنانيات للعمل في العراق، وفي مجال التدريس بصورة خاصة.
<<<
وقد روت لي إحدى المدرّسات ان التعليم كان في البيوت، حيث تلتقي الطالبات، وتأتي المعلمة كي تلقّنهن أصول اللغة والعلوم. وقد أُطلق على ذلك الأسلوب، في حينه، اسم «قبولات».
<<<
لكن الستّ وداد عملت فترة في دار المعلمات قبل ان تسافر كي تكمل دراستها العليا في أميركا. وهناك تابعت تخصّصها في التاريخ والتربية، الى ان حصلت على درجة ماجستير، وقد وظّفت علمها ومعرفتَها، لتحقيق رسالتها التعليمية في المدرسة الأهلية، حيث عُيِّنت مديرة في العام 1934. واستمرّت في ذلك المنصب طوال أربعين سنة.
<<<
ما ميّز هذه السيدة هو نهجُها التربوي، ونظرتها المستقبلية المنفتحة على كل ما هو جديد، ويعمل من أجل ارتقاء الإنسان وتقدّمه.
لذلك لم ينحصرْ نشاطُها في الإدارة التربوية، بل عملت في عدة مؤسسات اجتماعية وتربوية.
وحيثما كانت تشعر بالحاجة الى حضورها، وغرس أفكارها المتقدّمة، والهادفة الى الارتقاء بالإنسان.
كذلك ساهمت في العمل الإجتماعي والثقافي، وراحت تلقي المحاضرات في الجامعات والندوات الأدبية والعلمية.
<<<
ثمة خطّ آخر آمنت به هذه السيّدة، واعتبرته مكمِّلاً لنهجها التربوي، وهو تأليف الكتب التي تدعم التربية، وأذكر منها «مناهل القدسي»، ويتألّف من إثنين وعشرين كتيِّباً، استندتْ في تأليفها الى القصص التراثي والتربوي. وكتبت أشعاراً، تحوّلت الى أناشيد مدرسية. ونشرت مذكراتها تحت عنوان «دنيا أحببتها».
كما صدر لها وعنها كتاب مترجم الى اللغة الانكليزية.
<<<
حين التقيت السيدة وداد في العام 1954 كانت في أوج عطائها؛ وبابُها مشرعٌ أمام كل من يطلب مساعدتها، من الطلاب الى الأهل والأساتذة. وكانت تصغي الى الشكاوى، وتحاول ان تحلّ القضايا العصيّة، بحكمتها وعمق إدراكها.
وما ميزها عن سواها من المربيات في زمانها، إيمانها العميق بالإنسان، وبقدرة المرأة حين تُعطَى الفرصة، اذ كانت تقدّرُ مواهبها الكامنة، والتي تحتاج الى التشجيع. وهذا ما ظلّت تعمل له، من خلال توجيه المدرّسين، كي يتعاملوا بالحكمة والثقة، ويحاولوا فهم كل طالب أو طالبة على حدة.
وأذكر قولاً شهيراً لها، مارسته وعملت به: «يجب ان نربّي الفتيات على الثقة... يجب ان تكون لهنّ ثقة بأنفسهن، وهذا من أهمّ العوامل التربوية». كما كانت تؤكد ان التربية الحقيقية ليست علم القراءة والكتابة وحسب بل يدخل فيها الإيمان بالقيم الإنسانية والوطنية.
<<<
وإيماناً منها بتلك القيم أبقتْ بابَ المعهد مفتوحاً، تزورُه شخصيات عالمية، كي تُلقي محاضرات، أو تحاور الطالبات.
وأذكر من بعض تلك الشخصيات هيلين كيلر، التي لُقِّبت بأعجوبة القرن العشرين؛ وهي المولودة صمّاء بكماء، إنما تجاوزت الإعاقة لتصبح محاضِرة ومؤلّفة. والشخصية الثانية التي أذكر زيارتَها كانت فيجايا لاكشمي بانديت شقيقة الرئيس الهندي نهرو. وكانت أول امرأة تمثّل بلادها في الأمم المتحدة.
<<<
أذكر قولاً للمربية ـ سلمى المقدسي، شقيقة وداد، وقد كانت مرافقتَها طوال فترة إدارتها للمدرسة الأهلية: «إن وداد أحبّت الإنسان، والطبيعة. آمنت بالله وبكل ما وُهب. لكن، وعندما وقعت الحرب في لبنان، تلقّت صدمةً عنيفة، إذ أبصرتْ كلَّ ما عملتْ له طوالَ حياتها، من بناء تربوي ووطني وحضاري، ينهار أمام سمعها وبصرها، من دون ان تكون لها القدرة على تلافي ذلك الإنهيار».
<<<
لكن سيرتَها تبقى قدوة ومثالاً. وتظلُّ واحدةً من أهم رائدات النهضة الثقافية والتربوية والإنسانية في زمانها.