يتداخل مصطلح «السخرية» مع مصطلحات أخرى كثيرة تدخل ضمن الأدب الساخر كالهزل والنكتة والطرفة والنوادر وغيرها.
هذا ما نراه قد تجلى مع بداية العصر العباسي، حيث بدأ الأدب الساخر بالتبلور والتنوع أكثر فأكثر، وأخذ أبعادًا أخرى غير مقتصرة فقط على الهجاء كما رأينا في العصر الأموي والجاهلي، فبات يعتمد في كثير من صوره على الحسية واللامعقولية والتهكم، وعلى معالجة الواقع آنذاك.
فعمق الثقافة في تلك الحقبة الزمنية ساعد على عمق التجربة الإنسانية، فجاء الأدب العباسي زاخرًا بالمعطيات الإنسانية من حيث تصويره لجوهر الإنسان، وما يتعقب على النفس من حالات اليأس والأمل، والضعف والقوة، والحزن والفرح وغير ذلك، كما رسم الأدب العباسي المشاكل العامة في الاجتماع والفكر والسياسة والأخلاق، وهذا ما أدى إلى ابتكار فنون أدبية جديدة لم تكن موجودة عند العرب حينها مثل «فن المقامات» ويمكننا القول بأن جوهرها القصص والحكايات، إلا أن مبدعيها تعمدوا التصنع والتأنق فيها، وهذه المقامات تضم الحكايات والنوادر والمطايبات، بينما لا تخلو من جوانب تاريخية وحکمية وأدبية.
من أهم المؤلفات العربية في تلك الحقبة التي كانت مليئة بالقصص الساخرة «الأغاني لأبي فرج الأصفهاني»، «البخلاء لأبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ» ومقامات « الهمذاني والحريري» وهي تعتمد إلى جانب التناقضات في المواقف على الجناس والتلاعب اللفظي الذي يضفي عليها مرحًا إضافيًا.
فكتاب البخلاء الذي دوّن فيه الجاحظ فيلسوف الأدب الساخر، بعضًا من صور البُخل في الذين قابلهم وتعرف عليهم في بيئته الخاصة، خاصة في بلدة مرو عاصمة خراسان، وقد صور الجاحظ البخلاء تصويرًا واقعيًا حسيًا نفسيًا فكاهيًا، فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة أو المطمئنة ونزواتهم النفسية، وفضح أسرارهم وخفايا منازلهم وأطلعنا على مختلف أحاديثهم، وأرانا نفسياتهم وأحوالهم جميعًا، ولكنه لا يكرهنا بهم لأنه لا يترك لهم أثرًا سيئًا في نفوسنا.
ومن طرائف الجاحظ في كتابه البخلاء قصة « ما شبه أباه» التي يقول فيها:
«يحكى أن أحدهم نزل ضيفًا على صديق له من البخلاء، وما إن وصل الضيف حتى نادى البخيل ابنه، وقال له: يا ولد عندنا ضيف عزيز على قلبي فاذهب واشتر لنا نصف كيلو لحم من أحسن لحم، فذهب الولد وبعد مدة عاد ولم يشتر شيئًا، فسأله أبوه: أين اللحم؟!
فقال الولد: ذهبت إلى الجزار وقلت له: أعطنا أحسن ما عندك من لحم، فقال الجزار: سأعطيك لحمًا كأنه الزبد، قلت لنفسي إذا كان كذلك فلماذا لا أشتري الزبد بدل اللحم، فذهبت إلى البقال وقلت له: أعطنا أحسن ما عندك من الزبد، فقال: أعطيك زبدًا كأنه الدبس.
فقلت: إذا كان الأمر كذلك فالأفضل أن أشتري الدبس، فذهبت إلى بائع الدبس، وقلت: أعطنا أحسن ما عندك من الدبس، فقال الرجل: أعطيك دبسًا كأنه الماء الصافي، فقلت لنفسي: إذا كان الأمر كذلك، فعندنا ماء صافٍ في البيت، وهكذا عدت دون أن أشتري شيئًا، قال الأب: يا لك من صبي شاطر، ولكن فاتك شيء، لقد استهلكت حذاءك بالجري من دكانٍ إلى دكان، فأجاب الابن لا يا أبي، أنا لبست حذاء الضيف».
حتى كان يسخر الجاحظ من نفسه وقبحه، فروى: أتتني امرأة وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة، وأريد أن تسير معي. فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صانع، وقالت له: مثل هذا وانصرفت، فسألت الصانع عن قولها، فقال: لا مؤاخذة يا سيدي، إنها أتت إليَّ بحصى، وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان، فقلت لها: يا سيدتي ما رأيت الشيطان، فأتت بك وكان ما سمعت!!
أما الشاعر الفذ ابن الرومي الذي اعتمد السخرية في الإطار الوصفي، وعلى اللقطات الحسية الحركية، مثل قوله بوصف الأحدب:
غارت أخادعه ورق قذاله فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة فأحس ثانية لها فتجمعا
ومن المفارقات الحسية الساخرة عند ابن الرومي وصفه لمغنية لم يعجبه صوتها بقوله:
صوتها بالقلوب غير رقيق بل له بالقلوب عنف وبطشُ
فإذا رققته بالجهد منها خلت في حلقها شعيرًا يُجش
ومن صوره الطريفة واللامعقولة وصفه لرجل ذي أنف طويل فيقول:
لك أنف يا ابن حرب أنفت منه الأنوف
أنت في البيت تصلي وهو في السوق يطوف
أما المتنبي الذي عاصر مرحلة تفكك الدولة العباسية وقيام الدويلات المترامية على آثارها فقد برزت سخريته من خلال هجائه لكافور الإخشيدي، والذي تميز بشفتين عريضتين وفم كبير ورجلين كبيرتين لونهما أسود، وبهما شقوق في أكعاب قدميه، وكأن له حوافر لا أقدام، فقال:
وَتُعجِبُني رِجلاكَ في النَعلِ إ ِنَّني رَأَيتـُكَ ذا نَعلٍ إِذا كُنتَ حافِيا
وَمِثلُكَ يُؤتى مِن بِلادٍ بَعيدَةٍ لِيُضحِكَ رَبّاتِ الحِدادِ البَواكِيا.
هذا ما نراه قد تجلى مع بداية العصر العباسي، حيث بدأ الأدب الساخر بالتبلور والتنوع أكثر فأكثر، وأخذ أبعادًا أخرى غير مقتصرة فقط على الهجاء كما رأينا في العصر الأموي والجاهلي، فبات يعتمد في كثير من صوره على الحسية واللامعقولية والتهكم، وعلى معالجة الواقع آنذاك.
فعمق الثقافة في تلك الحقبة الزمنية ساعد على عمق التجربة الإنسانية، فجاء الأدب العباسي زاخرًا بالمعطيات الإنسانية من حيث تصويره لجوهر الإنسان، وما يتعقب على النفس من حالات اليأس والأمل، والضعف والقوة، والحزن والفرح وغير ذلك، كما رسم الأدب العباسي المشاكل العامة في الاجتماع والفكر والسياسة والأخلاق، وهذا ما أدى إلى ابتكار فنون أدبية جديدة لم تكن موجودة عند العرب حينها مثل «فن المقامات» ويمكننا القول بأن جوهرها القصص والحكايات، إلا أن مبدعيها تعمدوا التصنع والتأنق فيها، وهذه المقامات تضم الحكايات والنوادر والمطايبات، بينما لا تخلو من جوانب تاريخية وحکمية وأدبية.
من أهم المؤلفات العربية في تلك الحقبة التي كانت مليئة بالقصص الساخرة «الأغاني لأبي فرج الأصفهاني»، «البخلاء لأبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ» ومقامات « الهمذاني والحريري» وهي تعتمد إلى جانب التناقضات في المواقف على الجناس والتلاعب اللفظي الذي يضفي عليها مرحًا إضافيًا.
فكتاب البخلاء الذي دوّن فيه الجاحظ فيلسوف الأدب الساخر، بعضًا من صور البُخل في الذين قابلهم وتعرف عليهم في بيئته الخاصة، خاصة في بلدة مرو عاصمة خراسان، وقد صور الجاحظ البخلاء تصويرًا واقعيًا حسيًا نفسيًا فكاهيًا، فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة أو المطمئنة ونزواتهم النفسية، وفضح أسرارهم وخفايا منازلهم وأطلعنا على مختلف أحاديثهم، وأرانا نفسياتهم وأحوالهم جميعًا، ولكنه لا يكرهنا بهم لأنه لا يترك لهم أثرًا سيئًا في نفوسنا.
ومن طرائف الجاحظ في كتابه البخلاء قصة « ما شبه أباه» التي يقول فيها:
«يحكى أن أحدهم نزل ضيفًا على صديق له من البخلاء، وما إن وصل الضيف حتى نادى البخيل ابنه، وقال له: يا ولد عندنا ضيف عزيز على قلبي فاذهب واشتر لنا نصف كيلو لحم من أحسن لحم، فذهب الولد وبعد مدة عاد ولم يشتر شيئًا، فسأله أبوه: أين اللحم؟!
فقال الولد: ذهبت إلى الجزار وقلت له: أعطنا أحسن ما عندك من لحم، فقال الجزار: سأعطيك لحمًا كأنه الزبد، قلت لنفسي إذا كان كذلك فلماذا لا أشتري الزبد بدل اللحم، فذهبت إلى البقال وقلت له: أعطنا أحسن ما عندك من الزبد، فقال: أعطيك زبدًا كأنه الدبس.
فقلت: إذا كان الأمر كذلك فالأفضل أن أشتري الدبس، فذهبت إلى بائع الدبس، وقلت: أعطنا أحسن ما عندك من الدبس، فقال الرجل: أعطيك دبسًا كأنه الماء الصافي، فقلت لنفسي: إذا كان الأمر كذلك، فعندنا ماء صافٍ في البيت، وهكذا عدت دون أن أشتري شيئًا، قال الأب: يا لك من صبي شاطر، ولكن فاتك شيء، لقد استهلكت حذاءك بالجري من دكانٍ إلى دكان، فأجاب الابن لا يا أبي، أنا لبست حذاء الضيف».
حتى كان يسخر الجاحظ من نفسه وقبحه، فروى: أتتني امرأة وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة، وأريد أن تسير معي. فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صانع، وقالت له: مثل هذا وانصرفت، فسألت الصانع عن قولها، فقال: لا مؤاخذة يا سيدي، إنها أتت إليَّ بحصى، وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان، فقلت لها: يا سيدتي ما رأيت الشيطان، فأتت بك وكان ما سمعت!!
أما الشاعر الفذ ابن الرومي الذي اعتمد السخرية في الإطار الوصفي، وعلى اللقطات الحسية الحركية، مثل قوله بوصف الأحدب:
غارت أخادعه ورق قذاله فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة فأحس ثانية لها فتجمعا
ومن المفارقات الحسية الساخرة عند ابن الرومي وصفه لمغنية لم يعجبه صوتها بقوله:
صوتها بالقلوب غير رقيق بل له بالقلوب عنف وبطشُ
فإذا رققته بالجهد منها خلت في حلقها شعيرًا يُجش
ومن صوره الطريفة واللامعقولة وصفه لرجل ذي أنف طويل فيقول:
لك أنف يا ابن حرب أنفت منه الأنوف
أنت في البيت تصلي وهو في السوق يطوف
أما المتنبي الذي عاصر مرحلة تفكك الدولة العباسية وقيام الدويلات المترامية على آثارها فقد برزت سخريته من خلال هجائه لكافور الإخشيدي، والذي تميز بشفتين عريضتين وفم كبير ورجلين كبيرتين لونهما أسود، وبهما شقوق في أكعاب قدميه، وكأن له حوافر لا أقدام، فقال:
وَتُعجِبُني رِجلاكَ في النَعلِ إ ِنَّني رَأَيتـُكَ ذا نَعلٍ إِذا كُنتَ حافِيا
وَمِثلُكَ يُؤتى مِن بِلادٍ بَعيدَةٍ لِيُضحِكَ رَبّاتِ الحِدادِ البَواكِيا.