الوجه الآخر للمرآة
بدأت أحبها...
نولد عمياناً. قليلون منا يملكون البصيرة الثاقبة التي ترى الصفاء والسكينة خلف فوضى الأقنعة الخارجية التي نسميها وجوهاً...
ذات زمان بعيد، كنت أكرهها. ولو كنت أملك أيامها من المال ما يلزم لتخلصت منها، وأتيت بأخرى ترضي غروري، وتنال ثناء الناس وإعجابهم. لم أكن لأتردد ثانية واحدة...
كبرت معها. ورأيت نفور الناس منها. ولمست شفقتهم ورثاءهم، بل وسمعت ما كان يقال لوالدي. كيف ستعيش حياتها؟ لن يرضى رجل بأن يبني أسرته معها. ستظل وحيدة. آآآآخ... لو أمكن فقط تغيير بعض الأمور في شكلها...
ليس من السهل أن تحمل أنفاً ضخماً وعينين صغيرتين، كزري قميص، مزروعتين تحت جبهة عريضة لا تكاد تغطيها الخصلات المجعدة الكثيفة المنتصبة حول الوجه كفزاعة تعاقبت عليها الفصول وشتتها في كل الأنحاء. الفم كبير كبر الأنف. والمتأمل ينتبه إلى أن ثمة خللاً واضحاً في التركيبة العامة. وإذا أضيف لكل هذا قصر في الطول وامتلاء في الجسد؛ فإن كلام الناس عن عنوسة قادمة يصبح ذا معنى...
كرهتها من أعماق قلبي. ونفرت منها. وردت لي الصاع صاعين. تركت وجهها القبيح يمتلئ بثوراً، وعقصت شعرها الخشن وأهملت تمشيطه، وانكبت على كل ما امتدت إليه يداها من طعام تأكله بشره، وتترك جسدها يثقل دون اكتراث...
رحل الوالدان، وتزوج الإخوة، وتفرق أهل الدار وبقيت وحيدة تتنقل بين بيوتهم وتخدم أسرهم وترضى بالقليل الذي يمنّ به إخوتها عليها. لم تكمل دراستها. ولم تحاول البحث عن عمل. أي عمل... يكفيها سؤال الآخرين. أعين الناس كانت مشكلة. سمعت في المدرسة وخارجها ما يكفي من التعليقات الجارحة والسب والشتم؛ لكي تقرر أن تكفي الآخرين شر النظر إليها وتذكيرها بالكارثة..
قرر إخوتها بيع الدار، وصارت مسألة مقامها عندهم مطروحة. وكما توقعت... رفضت نساؤهم استقبالها.
أن تأتي لتنظف البيت وتطبخ الطعام وتخدم الأولاد شيء، وأن تقيم بشكل دائم معهم شيء آخر. لم أتمنَ هلاكها يوماً كما فعلت حينها. لماذا عليها أن تعقد حياة الجميع. لمَ لا تموت وتريح الناس... وتستريح...؟
أحد إخوتها جاء بالحل الذي لم يكن ينتظره أحد. هناك عريس لها. شيخ عجوز... تزوج أولاده وبقي وحده. وهو بحاجة لمن يرعاه.
لم تتردد. ولمْ ألمْها على ذلك. ولمَ لا؟ من كان يتخيل بأنها ستدخل القفص في النهاية... وتصير مثل جميع البنات...؟
شرط الرجل كان ألا تنجب. وأولاده الذين كانوا يفكرون فيما هو أبعد... أصروا على أن تخضع لعملية تعقيم. ووافقهم إخوتها. ولم تمانع هي أيضاً. ولمَ لا؟ ليست لديها أية رغبة في أن تنجب مسخاً آخر يتعذب مثلها...
أجرت العملية، وتزوجت الرجل. ولم يكن ضعيفاً ولا قليل الحيلة كما ظنت.
وجدت نفسها تعيش في جحيم من نوع آخر. ضرب وشتيمة وتجويع وزعيق على الصغيرة والكبيرة... وتذكير بالليل والنهار بأنها مسخ لن يرضى به أحد من بني البشر...
مات الرجل... ولم يترك لها سوى القليل.
وزع كل أملاكه بين أبنائه، وتركها تكاد تستجدي.
حمّلها إخوتها مسؤولية ما جرى. كان عليها أن تعرف كيف تقنعه بأن يضمن لها مستقبلها من بعده... لكنها غبية... لا تعرف كيف تتصرف... ولا نفع يرجى منها.
كلامهم ذبحها. وقررت أن تنتفض.
خرجت تبحث عن عمل، واستأجرت غرفة، وقررت استئناف دراستها.
عمليات التجويع التي أخضعها زوجها لها نفعتها كثيراً. انخفض وزنها وصار جسدها الذي تعود على الكد والحركة رشيقاً.
اشتغلت عاملة تنظيف في مركز تجاري، وبدأت ترى أشكالاً ونماذج مختلفة من البشر، مواطنين وأجانب. بعضهم كان مثلها، أو أكثر قبحاً... لكنهم كانوا يبدون متباهين بملامحهم الخارجة عن المألوف، وهندامهم المتفرد..
شيئاً فشيئاً... أخذت تخرج من قوقعتها.
حصلت على شهادتها الثانوية، ورقّتها مديرة قسم التنظيف، وعيّنتها لتشرف على فريق العاملات الذي كانت تعمل ضمنه.
وانفتحت عيناي، وأخذت أكتشف جمالها الداخلي، وأغرم بها.
فكرت في كل هذا وأنا أنظر إليها هذا الصباح، وهي تستعد للذهاب إلى عملها.
تركت شعرها المصفف بعناية منسدلاً في فوضى مدروسة على كتفيها، ووضعت مساحيق خفيفة على وجهها، وعطرت نفسها، وارتدت سترتها الصوفية البيضاء الأنيقة، وبدت كعارضة أزياء رشيقة وهي تدور حول نفسها وتضحك... وأحببتها أكثر... وأحببت التغير الذي لحق بي.
هل أنا حقاً هي هذه الشابة الحلوة السمراء المتبسمة في المرآة... والمقبلة على الحياة بكل تفاؤل وثقة وأمل...؟
أرسلت قبلة لنفسي عبر المرآة... وغادرت غرفتي وأنا أكاد أطير..