ثمة لحظات خاطفة في الحياة تشعر فيها بالوحدة والغباء، ويخيل إليك أن العالم كله ينظر إليك ويحبس ضحكاته الساخرة. مواقف «بايخة» كما يقال، تدفع فيها ثمن شرودك وعدم تركيزك، وتتمنى لو يعود بك الزمن إلى الوراء ثواني لتمحو لحظة «هبلك»!
يعرف بأنه يحتاج لبضعة أيام راحة. وتيرة عمله في الفترة الأخيرة وضغوط مشاكل الإرث التي رمى إخوته ثقلها عليه، استنفذا كل طاقته. ولم يعد يرى بوضوح أين يضع قدميه. مدير الشركة التي يعمل فيها يريده أن يراجع كل معاملات السنة، و«البحلقة» في شاشة الكمبيوتر صباح مساء، نالت من صحته. الصداع لا يفارقه، وعيناه لا تقويان على النظر إلى شيء. وإخوته الثلاثة يعتقدون بأنه ما دام يعيش وحده دون زوجة ولا أطفال فهو حرّ لا تتبعه مسؤوليات... وإذن فليس له عذر في رفض تمثيلهم أمام القاضي، والإشراف على تقسيم التركة المتواضعة التي تركها لهم الوالد المتوفى حديثًا. دار قديمة ودكان حدادة يرفض الرجل الذي يكتريه منذ أكثر من عشرين سنة أن يتركه أو يزيد درهمًا واحدًا على المبلغ البئيس الذي يدفعه كل شهر. مشاكل هو في غنى عنها. خصوصًا في هذه الفترة من حياته، وهو يراجع أولوياته، ويتساءل إن لم يكن الوقت قد حان ليغيّر نمط عيشه، ويبحث عن آفاق أرحب ربما في مدينة أخرى. فالوالد مات، والإخوة تفرقوا، وما عادوا يسألون عليه إلا لقضاء أغراضهم الصغيرة. وهو تعب... تعب من الوحدة، والعمل الممل المضني، والأيام المتشابهة، والجو العام الكئيب...
أخذ موعدًا لدى طبيب عيون، وتوجه نحو عيادته، وهو يفكر في الطريقة المثلى لكي ينهي سريعًا المهمة التي أوكلها له إخوته، وينصرف إلى أموره الشخصية. لا يمكنه الاستمرار في وظيفته طويلًا. ليس من المنطقي أن يدفن نفسه في الأرشيف ست ساعات في اليوم مقابل راتب هزيل وحظوظ شبه منعدمة في الحصول على ترقية لن تخرجه في كل الأحوال من دهليز الأرشيف المظلم، ولن تحدث فرقًا كبيرًا في تعويضاته المادية..
اختياره المهني كان خاطئًا منذ البداية. خبرته في مجال الكمبيوتر يمكن أن تستغل بشكل آخر، في مجالات بعيدة عن الأرشفة التي لم يجنِ منها غير آلام الظهر ونقص النظر وبؤس الحياة ومرارة الإحباط.
أوصله التاكسي إلى العنوان المعلوم. بناية أنيقة في شارع مخضر وسط المدينة. أخذ المصعد إلى الطابق الرابع وعبر ممرًا غطيت أرضيته بسجاد أحمر وثير، ودلف إلى العيادة التي كان بابها مفتوحًا. لم يجد في الداخل شخصًا لاستقباله. جلس في الصالون الصغير وتساءل كيف يمكن استقبال عدد من المرضى في مكان ضيق كهذا.
تطلع إلى اللوحات التي تزين الجدران، ونظر بدهشة إلى بضع صور فوتوغرافية على منضدة صغيرة قرب الشرفة. إنها أول مرة يرى أشياء شخصية معروضة في عيادة طبيب. لكن من يدري...؟ بعضهم يتعمد ذلك، ربما لإشعار المريض بأنه جزء من العائلة...
ابتسم بسخرية ونظر إلى ساعته وقد حان موعده. لِمَ لا يظهر أحد في المكان؟
ما كاد يبدي تساؤله حتى دخلت عليه سيدة تحمل فنجانًا وصحن أكل. حملقت فيه وصرخت ووضعت ما في يدها، واندفعت تسأله ما الذي يصنعه في بيتها...
لم يكن الصالون الذي جلس فيه صالة انتظار. كانت تلك شقة خاصة.
لم يصعد إلى الطابق المناسب.
هرول خارجًا وهو يعتذر بكلمات متكسرة، وجرى إلى موعده والخجل يغمره.
شعور عارم بالغباء تملكه ولم يفارقه، حتى وهو يجلس أمام الطبيب الذي قام بعد الكشف عن عينيه بتغطية عينه اليسرى، ودعوته لقراءة الحروف على اللوحة أمامه بصوت عال.
كان لا يزال يفكر في لحظة إحراجه مع المرأة.
تمنى لو انشقت الأرض وبلعته حينها.
كرر الطبيب دعوته. وتملكه الهلع وهو لا يرى شيئًا.
شجعه الطبيب، ورد بصوت مرتجف: «لا أرى شيئًا يا دكتور. لا أرى شيئًا...».
كان الظلام يلفه تمامًا. ازداد هلعه وربت الطبيب على كتفه، وقال وهو يحبس ضحكة تركها تنهي كلامه: «طبعًا... لا يمكنك أن ترى شيئًا.. وأنت تغلق عينك اليمنى. افتحها وسوف تكتشف أن باستطاعتك أن ترى...».
لحظة الوحدة الخاطفة تلك التي تتملكك وتشعرك بأنك أغبى شخص في العالم...
تنفس عميقًا، وقرر بأن الوقت حان فعلًا؛ لكي يغير الكثير من الأمور في حياته.