لم تكن هناك. عرف ذلك حين فتح عينيه وتقلب في الفراش بضيق.
لا يدري إن كان سيتحمل الأمر طويلاً.
ترك الماء البارد يندلق بصمت على وجهه العابس. لم يكلف نفسه تصفيف خصلاته المتمردة. رمى سترته الرمادية الخشنة على قميصه الداخلي وجر رجليه بامتعاض خارجاً.
لم يلتفت لأحد. سمر نظره على أرضية الممر الإسمنتية الداكنة، وتوجه نحو مكانه المعتاد في الزاوية المحاذية للمطبخ.
خبز وزبدة ومربى وشاي ساخن. الفطور المعتاد.
تناول أكله بذهن شارد. لا يمكن أن يستمر الحال هكذا. للأسبوع الثالث على التوالي. أين هي؟ كيف يتحمل كل هذا دونها؟
ساقته قدماه خلف الآخرين خارجاً.
رفع رأسه للسماء بامتعاض. غيوم ثقيلة وجو كئيب. لم يشعر برغبة في المشي، ولا في مخالطة الآخرين. ارتمى على مقعد حجري جانبي. ومد يديه أمامه وتخيل لمستها الحانية. وشعر برغبة في البكاء.
ثلاثة أشهر. كيف يتحمل المزيد؟ كيف يصبر على كل هذا؟
عندما انقض على الرجل وأشبعه لكماً لم يكن يتخيل بأن حصيلة نوبة غضبه المفاجئة ستكون بهذه الفظاعة. موت بطيء بعيداً عنها. حلقة عذاب يومية.
لم يكن يتخيل بأن ردة فعله العفوية ستجر عليه كل هذه المشاكل.
كان يركض كعادته كل صباح في المتنزه عندما فاجأ الرجل.
أربعيني رفيع الجسد ينهال ضرباً على كلب متشرد يتلوى أرضاً ويعوي بألم. جرى ليتدخل. عصا الرجل الطويلة لم تتوقف عن الصعود والهبوط على ظهر الكلب وبطنه ورأسه وسيقانه. رمى نفسه عليه وأحكم قبضته الثقيلة على عنقه في اللحظة التي انفجر فيها دماغ الكلب... ولم يشعر بشيء بعد ذلك.
كيف فك الناس ضحيته من قبضته قبل فوات الأوان؟ لا يعلم. لا يتذكر شيئاً.
وجد نفسه موقوفاً في مخفر الشرطة.
ولم يندم.
ولم يسأل عن الرجل.
صورة دماغ الكلب المنفجرة لا تغادر ذهنه.
هل دفنوه؟ أم رموه في برميل القمامة؟ أم أهملوه هناك... في العراء؟
ذكره عواؤه بأنين المرضى الذي كان يملأ ممرات مستشفيات الأمراض العقلية التي تنقل بينها. أنين رتيب يعلو ويهبط ويثير حنق الممرضين المناوبين. هل كان هو الآخر يئن عندما يغلبه النوم بعد بلع المهدئات التي تقدم له؟ لا يدري... لكنه تنفس الصعداء عندما أطلق سراحه وسمح له بمغادرة المكان.
«نقص في الأسرة، وضعف في الميزانية» هذا ما قيل له. «حان الوقت لتتحمل مسؤولياتك. كلفتنا ما يكفي. تسع سنوات والدولة تصرف عليك. أخدم نفسك بنفسك الآن...»
كلام لم يفهمه. كلام لم يعن له أكثر من أنه استعاد حريته. وصار كبقية البشر الذين لا يشكون من أمراض عقلية، ولا يخضعون لمراقبة طبية.
مر بأوقات صعبة قبل أن يبدأ بتدبير أحواله. اشتغل حمالاً في سوق شعبية واستأجر غرفة وبدأ يعيش...
ارتفعت صافرة الحارس تنبئ بنهاية فترة الاستراحة اليومية في ساحة المبنى، وقام بتثاقل يتبع بقية المساجين.
رفع رأسه للسماء وهو يجر رجليه بحثاً عنها. رذاذ خفيف ينبئ بجو قاتم بقية اليوم.
اشتاق لها. للمستها الدافئة. لدغدغتها الحانية. لنورها. لإشراقتها الصباحية البهيجة...
اشتاق لنفس الحياة الذي تبثه في جسمه، في روحه، في قلبه، في شرايينه...
اشتاق للشمس. اشتاق للحياة..