حينما سمع اسمها ظن الأمر مزحة. « بحرية». معقول؟ لم يتخيل قط بأن بالإمكان إطلاق اسم كهذا على... فتاة. معقول حقاً...؟
التفت إلى شلة الشباب الذين ملؤوا المكان زعيقاً. دزينة حمقى يتبخترون في ثيابهم الغالية، ويلوحون للقوارب القادمة بضجة وهم يلتقطون سيلفيات من كل الزوايا. شباب مدلل فارغ الذهن لا يرى في المسابقة البحرية التي كلفت المنظمين جهداً ووقتاً ومالاً سوى فرصة لاستعراض بهلوانياتهم أمام شاشات مواقع التواصل الاجتماعي... لكن... هذه البحرية....
حملق في الشابة الشقراء التي كانت تقف عن جنب وتكتب شيئاً. نعم. تدون شيئاً في دفتر صغير تسنده يسراها.
اقترب بصمت ونظر إليها، وإلى الدفتر، وإليها ثانية... ونسي السباق.
لم يكن متحمساً للحضور. ظن قريبه الذي جاء يصحبه ليشهد معه سباق القوارب الشراعية السنوي يسخر منه. كيف يعرض عليه أن يضيع يوماً ثميناً من إجازته القصيرة في التفرج على القوارب... هو الذي يمضي شهوراً طويلة في البحر على متن سفن الصيد الضخمة...؟ ألح قريبه وأكد له أنه لن يندم على الفرجة... وصحبه دون أن يقتنع فعلاً بكلامه.
لكنه الآن، وهو يرمقها بفضول، لم يندم على حضوره.
«بحرية». أهي غمزة من القدر؟ تنحنح مبتسماً وبدأ بالكلام.
ولم يندم.
دردشة قصيرة أفضت إلى دعوة لتناول المثلجات، وإلى تبادل رقم الهاتف وإلى التنزه طويلاً في الميناء وإلى الاتفاق على موعد لقاء قريب لمواصلة الحديث.
أخبرته بأنها تدرس في كلية اللغات، وتحضر بحثاً عن الرياضات البحرية.
وأخبرها بأن لديه الكثير مما يقوله لها عن البحر، ومهنه، وأخطاره، وغموضه.
وكافأته بأجمل ابتسامة رآها في حياته. شيء كالسحر. شمس أضاءت شفتيها المرسومتين كقلب أحمر صغير، وانعكست بفتنة في عينيها العسليتين الدافئتين. وفغر فاه وهو يشعر بالأرض تميد به.
لم يعرف من قبل إحساساً كهذا. نعم. يقولون إن للبحار حبيبة في كل ميناء. لكن هذا لا ينطبق عليه. مهنته تأخذ كل وقته وتفكيره. وقصص الحب القليلة التي عرفها لم تكن أكثر من تسالٍ سرعان ما مل منها وأرشفها جانباً.
تتالت مواعيدهما وتوالت رسائلهما إلى بعض. أخبرها بأن إجازته قصيرة، وطلبت منه أن لا يفكر في الغد. حكى لها عن فترة الإبحار الطويلة، عن شهور العزلة، عن الصيد في أعالي البحار، عن السفن التي تشبه مصانع عائمة، يتم فيها تنظيف السمك وتصقيعه وتعليبه وتغليفه، عن أمواج البحر الهائجة، عن العيش في مكان ضيق مع أشخاص من ثقافات مختلفة، عن رحلة الشقاء اللذيذ، عن الزرقة اللامتناهية، عن الوحدة والعزلة والحنين.... وشربت كلماته وهي ترمش بتأثر وتتطلع إليه بافتتان... ودق قلبه بعنف وهو يتخيل عش الزوجية ودفء الأحضان وضجة الأطفال الصغار ذوي الخصلات الشقراء والعيون العسلية الدافئة.
وحان وقت مغادرته.
قال إنه سيعود إليها ويرى أهلها، ونظرت إليه بدهشة وسألته لماذا.
«لماذا ماذا؟» استفسرها بقلق. وردت، لماذا يريد زيارة أهلها...
تطلع إليها بصمت. تحدثا، وتمزق صدره ألماً. لا رغبة لها في الارتباط. لديها دراستها وأبحاثها ومشاريعها الخاصة للمستقبل. ولديه لا شك « حبيبة في كل ميناء» قالت ضاحكة وأردفت بأنها مسرورة؛ لأنها صارت لفترة قصيرة واحدة من حبيباته...
كانت تضحك فعلاً وهي تقول هذا الكلام.
واصل تطلعه الصامت إليها، ونظرت إلى ساعتها وسألته بمرح إن لم يحن موعد مثلجاتهما اليومي. حرك رأسه نافياً، وهزت كتفيها، وقد شعرت أخيراً بثقل اللحظة.
أشاح كل منهما بوجهه، وقالت إنها تأخرت، وتمنت له يوماً طيباً، وعرف بأنها النهاية.
لو قيل له إن القلب يمكن أن يثقل حتى يصير صخرة يتجمع فيها عذاب الجحيم لما صدق.
لكنه الآن يعيش اللحظة. ويصدق.