رغم التطور التقني الهائل الذي نعيشه في القرن الحالي، وفي وجود الأجهزة الإلكترونيَّة التي تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، يظل الدماغ البشري هو أقدمها وأعقدها وأكثرها إثارة للفضول. من أجل ذلك تعكف مجموعة من نحو 200 عالم من مختلف أنحاء العالم لدراسة العقل البشري بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك عن طريق مشروع The Human Brain Project أو اختصاراً HBP بتكلفة تقدر بنحو 1.6 بليون دولار.
أضخم محاكاة للعقل البشري في دراسة تستغرق عشر سنوات!
نشاطات الدماغ على أجهزة الكمبيوتر
تتمركز رؤية المشروع على فهم الدماغ البشري وطريقة عمله بشكل متكامل، فهي من أعظم التحديات التي تواجه البشريَّة في القرن الواحد والعشرين. وفي حال تطورت علومنا لمستوى التحدي، سنستطيع اكتساب البصيرة الكافية؛ لمعرفة ما يجعلنا بشراً، كما سيساعدنا ذلك على تطوير علاجات أمراض الدماغ وبناء أجهزة إلكترونيَّة ثوريَّة جديدة. ورغم أنَّ علم الأعصاب ينتج العديد من الأبحاث وقواعد المعلومات فيما يخص جوانب محددة من الدماغ، إلا أنَّنا مازلنا نفتقر لفهم موحد لعمل الدماغ، الذي يمكن أن يمتد لمستويات متعددة من التنظيم، من الجينات إلى الإدراك والسلوك.
ويهدف المشروع إلى إنشاء محاكاة لنشاطات الدماغ تتم ترجمتها على أجهزة كومبيوتر ضخمة متعددة الطبقات، وهي ليست فكرة جديدة بأي حال من الأحوال، لكن المذهل هنا هو نطاق وحجم المشروع الذي ستقوم المفوضيَّة الأوروبيَّة بتمويله على مدى عقد من الزمان بقيمة تصل إلى 1.6 بليون دولار، ما يدفع المشككين للتساؤل في إمكانيَّة نجاح هذا المشروع. ويجمع المشروع نخبة من أفضل العلماء الأوروبيين من ثلاث عشرة مؤسسة للبحث العلمي، ويركز على ثلاثة مجالات أساسيَّة للبحث هي: علم الأعصاب، علم الأدوية، والحوسبة الإلكترونيَّة.
مستقبل علم الأعصاب
كما ذكرنا سابقاً فإنَّ التطورات المذهلة في مجال علم الأعصاب، مكّنتنا من فهم العديد من مستويات عمل الدماغ البشري من الجينات وصولاً إلى الإدراك، إلا أننا مازلنا حتى اليوم نفتقر لفهم كيفيَّة تفاعل هذه المستويات مع بعضها بعضاً. ويعتقد بعض علماء الأعصاب أنَّ اتخاذ منهج نظري مفاهيمي هو شرط أساسي؛ لفهم الميكانيكيات العميقة لنظام الدماغ، فيما يذهب آخرون للاتجاه المعاكس بحجة أنَّ الطريقة الوحيدة لفهم الظواهر الناشئة العليا تكون بفهم الميكانيكيات الكامنة أولاً. ويجمع مشروع HBP الطريقتين ويقدّر قيمة كل منهما، خصوصاً عند نقاط التقائهما. لذلك فإنَّ المشروع سينفذ إستراتيجيَّة متعدِّدة الجوانب تعترف بالوضع الخاص للدماغ كنظام متعدد النطاقات. وعلى الفور سوف يقدم المشروع للباحثين قدرات جديدة لمعالجة نظام التعليم والذاكرة، وأساسيات قدرة البشر على تشكيل العادات والتكيف بسرعة عند تغير البيئة، كما سيسمح أيضاً بمعالجة الأشكال المرَضيّة للتعلم كما في الإدمان، أو في سلوك الأطفال الذين يعانون من التوحد.
مستقبل علم الأدوية
في وقتنا الحالي تظل أسباب أغلب الأمراض النفسيَّة والعصبيَّة غير معروفة أو مفهومة جزئياً. فالمشكلة الرئيسة هي أنَّه على عكس الوضع في السرطان مثلاً أو أمراض القلب والشرايين، ليست لدينا وسيلة للتصنيف الموضوعي لأمراض الدماغ. ونتيجة لذلك يستمر تشخيص أمراض الدماغ بشكل غير دقيق؛ ما يضع عبئاً كبيراً على الأطباء؛ لتحديد ومطابقة أعراض المريض مقابل خطط التصنيف الشخصيَّة؛ مما يزيد مخاطر التشخيص الخطأ، ويعرض المريض لتلقي علاجات غير مناسبة. وسيعالج HBP مسألة التصنيف الموضوعي والتشخيص للأمراض العصبيَّة والنفسيَّة بشكل مباشر، وعلى وجه التحديد فإنَّ منهاج المعلومات الطبيَّة للمشروع سيسمح للباحثين بمقارنة نمط الاضطرابات البيولوجيَّة الملاحظة في مريض واحد؛ مقابل البيانات الواردة من عدد كبير من المرضى الآخرين، وذلك لتحديد مجموعات من المرضى الذين يعانون من اضطرابات مماثلة يعرّف كل منهم بتوقيعه البيولوجي الفريد. بمعنى آخر سيخرج المشروع عن النمط المعتاد لدراسة مرض واحد مصنّع حسب معايير شخصيَّة، لدراسة مجموعة متوسعة بشكل مطّرد من الأمراض، وهذا يتطلب تحليل كميات هائلة من البيانات السريريَّة من أفراد مختلفين ينتمون إلى مجموعات عرقيَّة مختلفة، ومعرضين لمختلف التأثيرات البيئيَّة والجينيَّة المختلفة.
مستقبل الحوسبة
تواجه تكنولوجيا الحوسبة اليوم عقبات إن لم يتم التغلب عليها فقد تبطئ بشكل كبير التقدم الهائل، الذي تم في السنوات الخمسين الماضية. فنحن اليوم أكثر من أي وقت مضى نبني أجهزة كومبيوتر مع وحدات معالجة أكثر، ما يرتفع استهلاك الطاقة ويزداد معه احتمال فشل المكونات بشكل قد يخرج عن السيطرة. هذه المشاكل تخلق ضرورة إنشاء أنظمة حوسبة جديدة، وبشكل خاص إنشاء نماذج حوسبة مستوحاة من الهندسة المعمارية للدماغ. فالدماغ يختلف عن أنظمة الحوسبة الجديدة في خمسة أوجه رئيسة:
- الأول في استخدام الدماغ لمكونات غير متجانسة، فعلى عكس أجهزة الكومبيوتر الحديثة فإنَّ مكونات الدماغ وهي: القنوات الأيونيَّة، المستقبلات، نقاط الاشتباك العصبي، الخلايا العصبية، والدوائر متنوعة للغاية، وهي الخاصية التي أظهرت أنّها تضيف المتانة لنظام الدماغ.
- الثاني أنَّها على عكس مكونات الكومبيوتر، تتصرف بشكل عشوائي، فلا يمكن التنبؤ بالمخرجات المحددة التي تنتجها استجابة للمدخلات المعطاة.
- الثالث أنه يمكن لمكونات الدماغ أن تتحول بشكل حيوي بين التواصل بشكل متزامن وغير متزامن.
- الرابع أن الطريقة التي تنتقل فيها المعلومات عبر الدماغ تكاد تكون مختلفة كثيراً عن الطريقة، التي يتم بها نقل البيانات داخل الكومبيوتر.
- وأخيراً فالدماغ البشري منظم هرمياً، ومتكرر على نطاق واسع بشكل متصل؛ لذلك هو يختلف تماماً عن بنية التواصل مع أي جهاز كومبيوتر حديث. ولكل هذه الأسباب فإنَّ فهم نموذج الحوسبة في الدماغ لديه القدرة على إنتاج نقلة نوعيَّة في النماذج الحالية للحوسبة.