من منَّا لا يتذكر هرم بن سنان؛ لما قام به من صلح بين داحس والغبراء، سيخلد كل من يبذل جاهًا أو ينفق مالاً أو يبادر إلى مكرمة لحل خلاف أو عتق رقبة، أو إصلاح بين الناس، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} سورة النساء، ويقول تعالى {وَلَمن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} سورة الشورى.
لقد أسهمت لجان إصلاح ذات البين المنتشرة في مناطق السعوديَّة في إنهاء كثير من المشكلات، وإيقاف جملة كبيرة من المنازعات، وتخفيف الضغط عن المحاكم ونشر أعمال الخير، وبذل المعروف للناس، ونبذ العداوات والشحناء فيما بينهم، والترغيب في التحلي بمكارم الأخلاق التي يأمر بها ديننا الحنيف، وهي انعكاس لقيم المجتمع السعودي، فاللجان تسعى في العفو وإصلاح ذات البين، وتسدي النصح، وتبذل التوجيه، وترشد الجاهل، وتنبه الغافل، وتبين الحقوق، وتشرح الواجبات، وتوضح الجائز، وتحذر من الحرام، وتعمل على تنفيس الكربات، وتفريج الهموم، ومعونة المحتاج، ومساعدة الفقير، وإسعاد البائس، ولهذه الأهميَّة فقد أُسس أول كرسي علمي يعنى بإصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة «كرسي الدكتور محمد عبده يماني لإصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة».
«سيدتي» التقت الدكتور صالح بن عبدالله الفريح، المشرف العام على كرسي الدكتور محمد عبده يماني لإصلاح ذات البين؛ ليوضح لنا أهداف الكرسي ومقاصده والدور الذي لعبه في المجتمع.
بداية كيف جاءت فكرة تأسيس الكرسي؟
كانت البداية بمبادرة كريمة من الشيخ صالح كامل، لتأسيس عمل يخدم أبرز أنشطة وأعمال الراحل الدكتور محمد عبده يماني، التي كان من أبرزها سعيه في إصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة التي كان يبذلها لما كان يتميز به، يرحمه الله، من قبول ومحبة بين الناس، وقد تلقى مدير الجامعة الدكتور بكري بن معتوق عساس هذه الرغبة باهتمام بالغ، وشكل لها لجنة لدراستها والاجتماع بالأستاذ ياسر بن محمد عبده يماني لصياغة منهجيَّة الكرسي، ووضع الأطر العامَّة له تمهيدًا لانطلاقه، وهو ما كان بالفعل.
أهداف الكرسي
ما الأهداف التي يعمل من أجل تحقيقها؟
كرسي الدكتور محمد عبده يماني لإصلاح ذات البين يهدف للنهوض العلمي بإصلاح ذات البين، والشفاعة الحسنة، ونشر ثقافتهما في المجتمع، كما يسعى لإجراء البحوث العلمية في مجال إصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة، التي تخدم الممارسة العلمية لها في الواقع المعيش، وإقامة الندوات وورش العمل وحلقات النقاش حول قضايا إصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة؛ لدراسة أولوياتها وواقعها واحتياجاتها وإشكالاتها والحلول المقترحة وما يتبع ذلك، وتعزيز دور لجان إصلاح ذات البين، وتقديم الدعم العلمي لها، والإسهام في رفع كفاءة العاملين فيها من خلال النتاج العلمي للكرسي، والتدريب ورسم الخطط العلميَّة لتحقيق أهدافها، ونشر ثقافة إصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة بين أفراد المجتمع بوسائل إبداعية ولمختلف الأعمار والفئات، بما يحقق استقرار المجتمع ونشر الوئام بين أفراده، وتشجيع ودعم البحث العلمي في إصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة، ودعم المؤسسات ذات العلاقة؛ للإسهام في بناء ونشر ثقافة إصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة.
هل سيقتصر دوركم على تقديم الأبحاث والدراسات التي تساعد العاملين في هذا المجال، أم ستمارسون الإصلاح والشفاعة؟
طبيعة الكراسي العلمية أنها تقدم الدعم للعاملين في الميدان ولا تزاحمهم، وذلك بمختلف أوجه الدعم، ما يساعد العاملين على تقديم الجيد والمفيد، بل إن الكراسي العلمية توظف إمكاناتها لخدمة المجتمع من خلال الدعم العلمي الذي تقدمه للعاملين في الميدان، ولذا فإننا في الكرسي لا نتبنى تلك الممارسات، بل نقدم الدعم بالدراسات والأبحاث والاستشارات والدورات والتنسيق بين الجهات العاملة في الميدان، وكذا إقامة الملتقيات والندوات وورش العمل التي يشارك فيها العاملون في الميدان، مما يثري المشاركين والكرسي، ثم تقديم نتائج ذلك كله للجهات العاملة؛ لتفيد منه في تقديم ممارسة صحيحة ومتميزة.
تماسك بناء المجتمع
ما تقييمكم لعمل لجان إصلاح ذات البين المنتشرة في مختلف مناطق السعودية؟
لا شك أن اللجان العاملة في إصلاح ذات البين قدمت وتقدم خدمات جليلة للمجتمع في سبيل الاستقرار الاجتماعي، ومعلوم ما لإصلاح ذات البين من أهمية في تماسك البناء الاجتماعي وتقويته، ولذا فقد جاء الإسلام بالتحذير من أسباب الشقاق وسد الطرق الموصلة إليها، وحث على جمع الكلمة وتوحيد الصف، ليس ذلك فحسب، بل رغّب في التجاوز، وأكد على الصبر والتغاضي، وبعد ذلك جاء بالأمر بإصلاح ذات البين، بل قرنه بتقواه جل وعز فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وذلك لأهميَّة هذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام.
ما نفتقده في الواقع هو التنسيق بين هذه اللجان المباركة، وعلى الرغم من وجود تحركات في هذا الاتجاه انطلقت من إمارة منطقة مكة المكرمة ممثلة بلجنة إصلاح ذات البين. نحن في الكرسي سندعم في هذا الاتجاه لعله يتحقق إيجاد لقاء سنوي يتم من خلاله تنسيق الجهود المبذولة في هذا السياق؛ لتكون داعمة للإبداع في تبادل الخبرات والارتقاء بالممارسة بشكل متميز.
ما مدى تقبل المجتمع لعمل لجان الإصلاح؟
المجتمع بحاجة لمثل هذه اللجان، وهو داعم لها، ومستفيد منها غاية الإفادة، وردود الأفعال التي وجدتها فيما زرته من لجان وما تنشره الصحافة والإعلام عمومًا يدل على تقدير المجتمع لدور هذه اللجان وإفادته البالغة منها.
الشفاعة الحسنة
الشفاعة الحسنة، كيف نرسخ هذه القاعدة الإسلامية في المجتمع السعودي؟
لا شك أن الشفاعة الحسنة من الأمور التي جاء الإسلام بالتأكيد عليها «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته»، وغيره من النصوص العظيمة في القرآن والسنة، وعناية من الكرسي بهذا الأمر عقدت حلقة نقاش للنظر فيما يمكن تقديمه من مشاريع علمية وعملية وإعلامية؛ سعيًا لترسيخ معنى الشفاعة الحسنة والتأكيد عليه، وتصحيح ما قد يكون وقع من أخطاء في الممارسة لدى البعض من خلال دراسات وأبحاث وأعمال إعلامية توعوية متميزة، وكذا دورات تدريبية إبداعية تحقق ترسيخ المعاني الحقة للشفاعة الحسنة.
العلم وتقوى الله
وما الشروط الواجب توافرها في من يقوم بالشفاعة؟
لا شك أن هناك جملة من الشروط التي يجب توافرها في القائم بالشفاعة، لعل من أهمها العلم وتقوى الله، ومن معرفة الناس الخبرة في التعامل معهم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وغير ذلك من الشروط التي لا يتحقق نجاح الشفاعة إلا بحصولها.
كيف نرسخ هذه القاعدة في المجتمع السعودي؟
نحتاج لعدد من البرامج والمشاريع المتميزة والإبداعية لنرسخ المعاني الخيرة للشفاعة، والمتمثلة بالشفاعة الحسنة، ولنتجاوز المعاني السلبية التي تضر بالمجتمع وتورث الضغائن والأحقاد والبغضاء، والمتمثلة بالشفاعة السيئة التي تسلب الناس حقوقهم، وتمنحها لسواهم بدعوى الشفاعة، وهذا أمر غاية في الخطورة ومفسد للمجتمع.
ماذا تقول لمن يبالغ في الدية؟
لا شك أن المبالغة في الديات مما تنبه له العاملون في مجال إصلاح ذات البين، وتم اتخاذ خطوات في مواجهة هذا الإشكال.
من برأيك أكثر تقبلاً للإصلاح والشفاعة بعيدًا عن المحاكم.. المرأة أم الرجل؟
إصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة ممارسات تنطلق من أصول الشريعة، ويؤيدها العقل؛ لذا أكثر الناس استجابة لها من تمثل ما جاء به الشرع المطهر، واتبع في ذلك سيرة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، الذي عفا وتجاوز وصفح، واستجاب لدعوة العقل في طلب الأمن والاستقرار لنفسه ولمجتمعه، فالتقبل لإصلاح ذات البين والشفاعة الحسنة مرتبط بالوعي والعقل لا بالجنس أو غيره.
بماذا تفسر تكدس القضايا الأسرية في المحاكم السعودية؟
الأسباب هنا متعددة وكثيرة، ولعل من الدراسات والأبحاث ما يكشف سبب ذلك، فلا يستطيع أحد أن يجزم بسبب معين، وهو موضوع يحتاج للإيضاح والبيان.