جاء القرآن الكريم بقِصصه الموحية، ليعرض لنا الأحداث التاريخية التي مضى بها الزمان، وذلك في سياق واقعي لعرض آياته عرضًا متناسقًا متسلسًلا، مُكسبًا إياها بُعدًا حقيقيًا مغلفًا برقائق النور والهداية، وبلاسم العظة والاعتبار.
يقول تعالى: «فاقصص القصص لعلهم يتفكرون». وقال تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".
فالقصة القرآنية عصارة من الحقيقة الصادقة. وقد أعلى الله سبحانه وتعالى من شأن المرأة في كتابه الكريم، وخصها بالخطاب في مواضع كثيرة منه، كما ذكر لنا قصصها، وأورد لنا في آياته نماذج كثيرة عنها، وعن أحوالها للعظة والعبرة والتعلم والاستفادة.
وقفات مع سورة يوسف:
السورة الكريمة التي وردت فيها قصتنا هذه، هي سورة يوسف، وهي سورة مكية، نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لتواسيه وتخفف آلامه بعد موت سنديه؛ عمه أبي طالب، وزوجته السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها. وفيها يقول ربنا سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: "الر تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون. نحن نقصُّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن. وإن كنت من قبله لمن الغافلين".
فجاءت هذه الآيات الكريمة مواساة وتخفيفا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان القرآن له شفاء ودواء وتسرية وتعزية وبلسما واحتواء، وهكذا كان القرآن دائمًا وسيظل لكل مسلم يبتغي راحته في كتاب الله تعالى، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا مأدبته ما استطعتم، وإنّ هذا القرآن هو حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من تبعه، لا يُعوج فيقوّم، ولا يزيغ فيُستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، اُتــلـــــــوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول بـ«ألم» ولكن بالألف عشرًا وباللام عشرا، وبالميم عشراً".
عبارات خالدة
ويقول تعالى في كتابه الكريم على لسان شخصيتنا النسائية اليوم:
"لآن حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم".
إنها السيدة «زُليخا» التي قالت تلك العبارة، فأزاحت عن ضميرها بتلك الكلمات أثقالاً وأوزارا، ظلت تحملها سنوات عدة، حتى آن الأوان لظهور الحق وكشف الظلم عن يوسف الصديق الذي تحصن بحصن الله فآواه وحفظه ورعاه.
وهي أيضًا زوجة العزيز التي كادت تستسلم لنداء الشيطان، لولا أن حماها الله تعالى برفض من أرادت أن تغويه، فلم يكن بشرًا عاديًا، بل كان صِّديقًا نبيًا، فقد كان سيدنا يوسف عليه السلام.
الصِدِّيق السجين:
وكان سيدنا يوسف عليه السلام قد سُجن ظلمًا بتهم باطلة لم يرتكب أيا منها، ويا للعجب إذا علمنا أن السجن هذا كان أحب الأماكن إلى نبي الله يوسف، الذي ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ووجد أن نفيه إلى السجن أفضل إليه بكثير من أشياء أخرى، فنجده يناجي ربه:
"قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إليّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ". ونجد رد ربنا سبحانه وتعالى على هذا الفتى الصالح في الآية التي تليها: "فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". ولكيد النساء مع سيدنا يوسف قصة.
حُسن وجمال:
كما أن لكل نبي امتحانا وابتلاء، فإن امتحان الله لنبيه يوسف كان بشدة حسنه وجماله!
ولم يكن الأمر على هذا النحو فقط، بل إن يوسف الصغير إلى جانب حُسنه وجماله قد ظهرت عليه منذ صغره علامات النبوغ والعلم والرؤى الصالحة، فقد رأى يوسف رؤيا في منامه مفادها أنه رأى الشمس والقمر له ساجدين وأحد عشر نجمًا أُخَر.
فقال لأبيه كما يحكي لنا النص القرآني:
"إذ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ للإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ".
غيرة وحسد
فهم يعقوب بنور النبوة أن ابنه يوسف، سيكون له شأن عظيم، وسوف يصطفيه الله تعالى من بين إخوته ليحمل أعبــاء الرسالة، ويبلغه الله تعالى مبلغا من الشرف والحكمة يفوق سائر إخوته وأقاربه.
وخاف سيدنا يعقوب عليه السلام على ابنه يوسف من غيرة وحسد إخوته، فنهاه أن يقص رؤياه على أحد منهم، فلم تكن هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها رؤيا صالحة ويغار منه إخوته.
محن في حياة يوسف قبل النبوة:
وها هي المحنة تلو الأخرى تأتي إلى يوسف الغلام، فبعد محنة رميه في الجب أو البئر، جاءت محنة الاسترقاق والعبودية. وقال الشخص الذي اشتراه لزوجته أكرمي مثوى هذا الغلام في دارنا، وأحسني معاملته؛ عسى أن يكفينا بعض المهمات إذا بلغ الرشد، أو نتخذه ولدا فنتبناه حيثُ لم تكن لهما ذرية.
مراودة واستعصام:
عاش يوسف في قصر العزيز الذي كان زوجا لامرأة جميلة كانت تعاني من الوحدة والضجر ومن مرض زوجها الذي عجز أن يأتيها بولد.
وفي ظل الثروة والمال والجاه وغياب الضوابط التي تمسك بزمام الحياة، في ظل هذا كله بلغ يوسف الصغير أشده، وأصبح فتىً جميلا راشدًا، هو أشبه بالملائكة منه إلى البشر، وراودته السيدة زُليخا التي هو في بيتها عن نفسه، فأبى واستعصم.
وشهد شاهد من أهلها:
وغلقت الأبواب، وهيأ لها الشيطان مطاردته، حتى إنها جذبته من قميصه بعد أن حاول الفرار منها فقُطع القميص من الدبر؛ أي من الخلف من شدة جذبها له.
وهنا دخل الزوج وفهم المعنى، ودخل من ورائه ضيوف كان معهم طفل صغير في المهد، فأنطقه الله تعالى كرامة لنبي الله يوسف، وهذا قول النص القرآني:
"وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ".
معالجة الخطأ بخطأ أفدح منه!
وعلم الزوج بما حدث فأوصى يوسف بالتكتم، وقال لزوجته استغفري لذنبك، ولم يعط للأمر أهمية أكثر من ذلك ولا اكتراثا!
ويا للعجب، ترك الزوج الأمر كما هو عليه، ولم يتخذ إجراءاته لعدم تكرار ما حدث، ولم يحاول حتى نقل مكان إقامة يوسف من بيته بجوار زوجه!
وهنا تبرز عظمة الإسلام الذي وضع لكل شيء ضوابطه الشرعية، ووضع آدابا للإقامة وحُرمة للحياة الزوجية، فمنع الغرباء أو الأقرباء من الرجال -حتى شقيق الزوج- من الإقامة داخل البيت إقامة دائمة، أو حتى الدخول والزوج ليس بالداخل والزوجة بمفردها!!
الخروج من السجن:
وجاءت امرأة العزيز التي كانت سببا في دخول يوسف إلى السجن، جاءت تشهد أمام فرعون مصر ومليكها في ذلك الوقت، جاءت مع النسوة اللاتي حضرن للشهادة أمام الملك، وشهدت معهن بأنها أخطأت في حق يوسف، وأنه معاذ الله أن يكون سببًا في إغواء بشر، كما جاءت تعترف بذنبها، وتقر بأنها تابت لربها، واستغفرت عن خطئها، فقالت كلماتها بعد أن عادت إلى ربها، وأعلنت توبتها:
«الآن حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ»