ترى هل يتعلق تسامحنا بعمق الأذى الذي تعرضنا له؟ وهل من السهل أن نمزِّق صفحاتنا الأليمة التي كتبها من ظلمنا وغدر بنا أو من استهان بمشاعرنا؟ وهل يمكننا أن نحرم من ظلمنا فرصة عودته تائبًا نادمًا؟
إليكم ما اكتشفه اليوم علماء في الغرب، فبعد تطوُّر العلم لاحظوا شيئًا عجيبًا وهو أن الذي يمارس «عادة العفو» تقلّ لديه الأمراض! وهي ظاهرة غريبة استرعت انتباه الباحثين، فبدأوا رحلة البحث عن السبب، فكانت النتيجة أن الإنسان الذي يتمتع بحبِّ العفو والتسامح يكون لديه جهاز المناعة أقوى من غيره، وبمجرد أن يفكر الإنسان في الانتقام فإن أجهزة الجسم ترهق وينخفض النظام المناعي، لكن عند ممارسة العفو والتسامح ينشط النظام المناعي، فعندما يغضب الإنسان فإن أجهزة الجسم تتنبه وتستجيب، وكأن خطرًا ما يهدد وجودها، مما يؤدي إلى ضخ كميات كبيرة من الدم، وإفراز كميات من الهرمونات ووضع الجسم في حالة تأهب لمواجهة الخطر، وضغط الدم سوف يرتفع، عملية الهضم سوف تضطرب، النظام العصبي سوف يتعب ويرهق، يضيق التنفس، وتتوتر العضلات، وهذا التوتر يؤدي إلى إرهاق الجسد في حالة تكراره، وبمجرد أن يغفر ويعفو تزول هذه التوترات وتزول الرغبة في الانتقام، وتهدأ أجهزة الجسد بسبب زوال الخطر، وهذا ما يعطي فرصة للنظام المناعي بممارسة مهامه بكفاءة عالية، فإن سامحت الناس أحبوك، وإن من أعظم الصفات العفو عند المقدرة، فلا نجعل الشيطان يتغلب علينا، ونجعل ما بداخلنا من شرٍّ وحقد أكثر من الخير والمحبة لمن حولنا، فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بالعفو مهما كانت الإساءة، بل ويأمر بالصبر الجميل ابتغاء وجهه الكريم. ويقول الخبراء إنَّ موضوع المكافأة مهم جدًّا في علاج الغضب، أي أن تجد بديلاً عن الانتقام، وهذا ما جاء في كتاب الله، يقول تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، فالأجر والمكافأة من عند الله تعالى، وأمر بالعفو، والمكافأة ستكون هي رضا الله تعالى، فهو الذي يعوضنا ويعطينا ما فقدناه، فالعفو صفة من صفات الله تعالى، فهو الذي يعفو عن عباده ويغفر لهم، ولذلك فهي صفة يحبها الله عزَّ وجلَّ، والنبي الكريم، [، أمر بالعفو، وطبّق هذه العبادة في أهم موقف عندما فتح مكة المكرمة، ومكَّنه الله من الكفار وعفا عنهم، وكان من نتيجة هذا العفو أن دخلوا في دين الله أفواجًا.
إن العفو شعور نفسي نبيل يترتب عليه التسامح، بشرط أن يكون المعتدى عليه قادرًا على الانتقام، فالإنسان حين يبتلع غضبه ويقبض يده فلا يقتص ويجعل عفوه عن المسيء نوعًا من الشكر لله، فما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا.
همس الأزاهير
لا تجعل من أخلاقك أرضًا يُداس عليها، بل اجعلها سماء يتمنى الناس الوصول إليها.
أنين التسامح
الإنسان السوي والمؤمن الراشد يكون منزوع الدسم من السم عنده براءة اختراع لمكارم الأخلاق، وهو مختومٌ على جبينه بخاتم «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ...»، غفر الله لنا إساءتنا للغير، وغفر الله لمن أساء إلينا، وغدًا نلتقي في الجنة إن شاء الله تحت مظلة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}.
د. عائض القرني