دخان النواعم


نشأت في أسرة ابتلاها الله بالتدخين، فالأب والإخوان ليسوا من المدخنين العاديين، لكن ممن يستحقون أن يطلق عليهم لقب المدخن الشره، ومن حقهم على الشركات المصنعة للتبغ أن تمنحهم جائزة «كحتك بالدنيا».

لم أشذ عنهم، بل في فلكهم ركبت، وفي سن صغيرة بدأت بالتدخين، مع بداية مرحلة المراهقة، اعتقادًا مني بأن ذلك من علامات الرجولة، وأنه سيضفي على شخصيتي وقارًا كوقار الكبار، ومع أن أبي -المدخن الأول بالأسرة- هددني وتوعدني وحذرني أكثر من مرة من التدخين، وكان يعدد لي مساوئه، ويقول لي لا تكن مثلي، أنا اعتدت عليه فلا تجعل من صدرك بوتقة تحرق فيها حياتك وصحتك بالدخان، أنصت إليه، وأجد كلامه جميلاً ومنمقًا، وكنت أهز رأسي معلقًا على حديثه، لكن تبقى صورة أبي وهو ينفث الدخان، ويضع يده على رأسه مفكرًا أو شاردًا، فيزداد إعجابي بجلسته وسيجارته للغاية، وعملاً بالحكمة التي تقول: «من شابه أباه فما ظلم»، أصبحت السيجارة ترافق سكناتي وحركاتي، حتى إنه أصبح لديَّ بعض العادات تتلازم مع سيجارتي، فسماع أم كلثوم، أو محمد عبده، لا بد له من سيجارة، فنجان من القهوة لا بد أن يصاحبه سيجارة، مشكلة «معفرتاني ومطيرة النوم من عيني» لا بد لها من سيجارة، خبر مفرح لا بد له من سيجارة، غضب.. سيجارة، كتابة مقال.. سيجارة، ومن الغرائب أنه طرأت عليَّ رغبة ملحة، وهي أن تُلتقط لي بعض الصور وأنا أنفث الدخان!

 

وحتى هذه اللحظة بقي لي سؤال لم أجد إجابة عنه: ما الرابط بين الرجولة والسيجارة، أو التدخين عمومًا؟ وإن كان هذا الاعتقاد بالقطع خاطئًا، لكن إن كان الشباب يعتقدون ولو كذبًا بأن السيجارة علامة من علامات الفحولة، فبماذا تبرر الفتيات تدخين البعض منهن، فهل يا ترى نفس الاعتقاد؟ أي أنها تزيد من أنوثتهن، وتزيدهن جمالاً ورقة وألقًا؟، أترك الإجابة للفتاة نفسها، وإن كنت أرى أن السيجارة تضفي نوعًا من الخشونة على النواعم، والشيشة أسوأ سبيلاً، أتخيل نفسي وأنا أجلس مع زوجتي أو خطيبتي أتغزل في عينيها ورقتها وعذوبة صوتها، وحنانها، وهي تجلس تضع رجلاً على رجل، وفي فمها «لَيْ» الشيشة وتنفث الدخان ولا أجدع ديناصور، ويعقب ذلك سعال متتابع، وبعد فترة يتحول صوتها الرقيق العذب إلى أجش رخيم، لأن السعال والتدخين يحولان القصبة الهوائية إلى «طبلة مخرومة»، أعتقد في هذه الأثناء أن أغير كلماتي الغزلية وأستبدلها بأخرى تتناسب مع الوضع القائم، حتى لا يكون كلامي تزويرًا في أوضاع واقعية، وعليَّ أن أقول لها: «طلع من مناخيرك يا جامد»، «راس بلا كيف تستاهل السيف»، وعليَّ أن أهديها في عيد ميلادها «باكيت» من المعسل الجيد، على أن يكون معدل جودته سعلتين كل خمس دقائق فقط، وأن أبتعد عن الورود في مناسبة عيد زواجنا، وأستبدلها بـ «شيشة» من النوع الفاخر، وبدلاً من جلسة تلفها الموسيقى الهادئة والأنوار الخافتة، عليَّ أن أتأقلم مع رائحة الدخان التي سوف تسكن كل ركن في بيتنا، وعلينا أن نتعاقد سنويًّا مع طبيب أمراض صدرية، وخبير في أمراض الجهاز التنفسي، أعتقد أن هذا الوضع هو الأنسب، وعلى شركات التبغ أيضًا أن تبتكر في صناعتها لتكون هناك أنواع من السجائر تتناسب ورقة حواء، وأن تجعل دخان النواعم بالألوان، بأن يكون دخان سيجارة حواء مرة باللون الأحمر أو الوردي والبمبي، والسيجارة في شكل قلم روج وماسكارا، حتى تتناسب مع حواء المدخنة.. ولا عزاء للرومانسية!