على ضفاف «بَرَدَى» على بابك «الشرقي» دمشق...

علقت حلقة من أمنيات للعائد قبل القيامة ينثر ورد البشارة.

رصعت «باب توما» بتغريبة الجازية.. على حلقة «باب الجابية» رشقت قرطا بربريا لحسناوات الشام، وعند «باب الجينيق» و«كيسان» رتبت دفاتر القول للرحلة القادمة، على قصص «الحكواتي» يعيد طريق الحرير لألق الذاكرة. عند «الباب الصغير» تضوع الهيل في قاع فنجاني الصغير. حين أومأت للقهوجي: «زدني... سأرحل بعد رشفتي هذه لمدينتي المغربية... فاتني موعد «باب الفراديس»... هكذا نحن نشقى على دروب الفراديس... دائما».

الساحة أمام الجامع الأموي الشهير بقلب دمشق الفيحاء تعج بالحمائم...مافتئت تخفق بأجنحتها مرحبة بالعابرين والزائرين، هنا ترجلت سلطانة ذاك الزمن  شجرة الدر من موكبها، وهي عائدة من مكة وقد أدت مناسك الحج، من أردان ثوبها المفعمة بطيب الحجاز وعبق البخور أطلقت أزواج حمام مكي... ترتعش حدقات الطيور يغازلها ضوء الصباح الشامي، ثم تتخذ من زوايا العمارة المهيبة موضعا لأعشاشها؛ ليتعاقب نسلها عبر السنين في حمى الحرم، لا يحل صيدها ولا أكلها، تهتز أجنحتها على صوت المؤذنين، فتتجاوب مع التهليل والتكبير في مفاصل النهار.

تستفيق المدينة على هديلها، وتكتحل الحجارة العتيقة باستعراضها مع خيوط الضوء...

 

ها هو ذا الجامع الأموي، درة دمشق، ترتفع عمارته ومآذبنه باذخة النقوش، مهيبة الحجارة، تنفتح البوابة الرئيسة بالترحاب؛ لينحسر التاريخ عن عصر المدينة الذهبي... أمضي بين الحشود، تستوقفني التفاصيل من كل جهة وجانب، أجول ببصري عبر الصحن الرحب وجمال العمارة وفخامتها.

لم يبالغ الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك حين قال للدمشقيين:

«تفخرون على الناس بأربع خصال: تفخرون بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامسة»..

أتردد أمام اللافتة المشيرة إلى عدم التصوير، ثم أنخرط مع الزائرين في المخالفة الجماعية، لا شيء يضاهي صورة للذكرى، أمرّ بنسوة ملتحفات في السواد، تعلق بعضهن أشرطة خضراء عند شباك المقام.. سرب أشواقي البرية يقودني حتى مقام طيب الذكر.. الفارس الأيوبي.

 آه صلاح الدين...

أي روح لم تلهج باستحضارك من قلب الزمن؛ ألتقط صورة من الزاوية للمدرسة الظاهرية... أذكر مدارس المدينة الحفصية العتيقة في قلب تونس: المدرسة السليمانية، والشماعية، والخلدونية... بيوت عبر التاريخ، تعلن عن شرف العلم ومكانته، تقول الشاعرة السورية الرقيقة ابتسام صمادي في ديوانها:

 «والشام لو تدعوك في الصبح النديّ لقهوة

 جلبت بومضة طرفها وعذارها

 نجدا تفوح بهيلها وعرارها

 تسري لتلقي بين كفيك اليمن..»

 

 القهوة العربية تقاطع الامتزاج بالسكر، أبقي على عذرية طعمها المميز، يحتاج اللسان برهة ليعتاد مرارتها، ثم يعلقه عشقها وهي معطرة بحب الهيل...

القهوة المعطرة في كل وقت من النهار قِرى الزائر، في مدخل المضافات المفتوحة بتشريع قانون الكرم العربي، أمام خطى الزائرين وأحلام العابرين.

أشتهي لو أجلس فسحة زمن، في حضن التأمل وأرشف فنجاني، ثم أتهجى بقايا البن المتخثر وتعاريجه عند القاع، فأقرأ طالع اليوم...

عمّ يفصح فنجان الصباح؟

وفناجين الحفاوة بعد الظهر تأتينا..

بمَ يسر فنجان المساء؟

 وفناجين السهر؟...

يليها واحد في آخر الليل قصد الانتباه لندى السحر...

 

ربما حكايات قوافل الطيبات في رحلة الحرير والتوابل... بخور الحجاز ولبان عمان ومسك نجد... بن اليمن والعقيق... عود القرنفل والقرفة من زنجبار... وزعفران الحدائق السرية من أرض الشموس... حرير سمرقند وقطن النيل..

طريق الحرير... ملتقى التجار عند مركز الشام، حيث يقايضون بردي «أوغاريت» و«إبلا»،  وزيت «يافا»، وتفاح «السويداء»، وفستق «حلب»... تسير بها الركبان شرقا جنوبا شمالا....

يا طريق الحرير... يا طريق الحنين، وألف حكاية ترف من نخيل الضفاف البعيدة وأمواج «هرمز»... هنا تستريح المطايا ويرشف المتعبون قهوة الهيل،

ظَمِئ الشرق فيا شام اسكبي...

لكل شرابه.. ولي شراب الشوق ومدام الوجد، وعشق الأمكنة.

 

يقال: حين عادت السلطانة شجرة الدر من الحج كان في صحبتها عشرون زوجا من حمام الكعبة المشرفة، أطلقتها في الأموي وحرمت صيدها، ومن يومها تكاثر الحمام وابتنى أعشاشه في ربوع الجامع الأموي.