تجارب الآخرين تثري معرفتك بهم، وبالناس، والثقافات التي يحتكون بها.. اطلعت مؤخرًا على مدونة شاب فرنسي، يقيم بصفة مؤقتة في اليابان، ويحكي بصدق وانفعال، عن تأثره بتمسك اليابانيين بتقاليدهم، وثقافتهم، واستعدادهم لتقبل الجديد، وتعلم المزيد، دون تعصب، ولا اعتداد بالنفس، وتقديرهم البالغ، والمؤثر لمعلميهم، وأساتذتهم.
ينقل الشاب تفاصيل بسيطة من يومياته في تلك البلاد، أحداث قد لا يتوقف عندها آخرون، تصور تعارض الكثير من السلوكيات الشرقية، والغربية، وتبين كيف يجد اليابانيون دائمًا طريقة لتكييف تقاليدهم مع عادات الأجانب الكثيرين، الذين يعيشون بين ظهرانيهم، بنحو لا يسلبهم جوهر ثقافتهم، ولا يمس مشاعر، وحرية ضيوفهم. ومن بين الحكايات التي سردها الشاب، اخترت هذه الحادثة التي تأثرت بها كثيرًا،
يقول صاحبنا:
«تلقيت اليوم سبعًا وعشرين رسالة شكر مخطوطة باليد، ومزينة بالأقلام الملونة، من سبعة وعشرين طفلاً يدرسون في القسم الابتدائي الأول، يشكرونني فيها على الوصفة الفرنسية التي علمتها لهم منذ أسابيع.. حدث ذلك بمبادرة من إدارة مدرستهم، فقد فكرت في دعوة أشخاص ينتمون إلى جنسيات مختلفة لتقديم وصفات طبخ خاصة ببلدانهم للصغار، وذلك لتعريف التلاميذ على ثقافات العالم المختلفة، وعادات كل بلد وتقاليده، وهذه فكرة ممتازة لتغيير روتين إلقاء الدروس في الفصل، وتدوين المعلومات على اللوح، ونقلها على الدفاتر.. فبإمكان الصغار التعلم بسرعة أكبر، وبحماس أشد، إذا أتيحت لهم الفرصة ليستكشفوا بشكل عملي الموضوع الذي يدرسونه.. وإن سمح لهم، ولو بشكل جزئي، المشاركة في عملية التعلم فإن النتيجة ستكون لا شك مذهلة.. هناك طرق عديدة لفتح آفاق جديدة للبحث، والاستقصاء أمام الأطفال.. وإدارة المدرسة التي زرتها كانت واعية لهذا الأمر، وراغبة في تطبيقه.
رافقتني في حصتي التعليمية مترجمة متطوعة قادتني إلى غرفة الطبخ، حيثُ وجدنا الأطفال، ومدرستهم بانتظارنا.. جميعهم يرتدون لباس الطبخ الملون، ويضعون مناديل صغيرة فوق رؤوسهم.. أدهشتني قدرتهم على تنفيذ الوصفة التي شرحتها لهم بسهولة.. وأذهلني أكثر انضباطهم: معلمة واحدة كانت كافية لتأطير ثلاثين طفلاً لا تتجاوز أعمارهم العاشرة، مهذبون جدًا، ومتيقظون، يوقدون الموقد متى سمح لهم بذلك، ويحضرون العجينة، ويدهنون المقلاة، ويرمون الفطائر بمهارة مدهشة كالكبار! قلبوها في الهواء كما شرحت لهم، وكانوا يبتسمون، ويحنون رؤوسهم كلما زودتهم بمعلومة جديدة.
تحلقوا حولي بعد أن أكلوا الفطائر، وأثنوا على الوصفة، ونظفوا قاعة الطبخ من الأرضية إلى الجدران.. أذهلوني بتنظيمهم، وتفاهمهم.. كانت تكفي إشارة مختصرة من المعلمة لكي ينقسموا إلى مجموعات: واحدة تغسل الأواني، وأخرى تمسحها، وثالثة تضعها في أماكنها، ورابعة تنظف الأرضية، وتمسح الجدران.. كان ذلك مذهلاً حقًا.. أمطرني الصغار بأسئلة طريفة، وذكية بعد ذلك:
«ما الذي أدهشك أكثر في اليابان؟ ما الذي تفتقده في بلدك؟ كيف هو الطقس في فرنسا؟ ما هي الحيوانات الموجودة بها؟ هل يتناول الفرنسيون حقا الضفادع، والثعابين؟ هل توجد أشباح في القصور الفرنسية القديمة؟ لماذا لا تسقط الرياح برج إيفل؟ من هم جيران فرنسا؟».
بعد الانتهاء من الإجابة، أوقفت المعلمة التلاميذ كالجنود الصغار.. نظرت إليهم بفضول ولم أفهم شيئًا.. صمتوا لثوان طويلة، ثم هتفوا بصوت واحد وهم ينحنون عدة مرات باتجاهي: «شكرًا جزيلاً! شكرًا جزيلاً! شكرًا جزيلاً!»، أثار المشهد إعجابي، وذكرني بالاستعراضات العسكرية المهيبة.. رافقني الأطفال، ومعلمتهم بعد ذلك إلى موقف السيارات حيثُ وجدت بانتظاري سائقًا جاهزًا لإيصالي إلى المدرسة التي تبعد بضع مئات من الأمتار عن قاعة الطبخ.. شكرنا المدير بشدة أنا وزميلتان من روسيا والصين قدمت كل منهما وصفة من مطبخ بلدها لأحد الأقسام الابتدائية، وقدم لنا تذكارًا من المدرسة، وباقات زهور.
غطت الصحافة المحلية، والقناة التليفزيونية التابعة للبلدة الحدث بشكل مهني ممتاز فاجأني كثيرًا، وألهب مشاعري.. لم أعتقد يومًا بأنني سأصبح نجمًا لأنني قدمت وصفة فطائر بالموز والشوكولاتة لأطفال مدرسة ابتدائية!».