لقاء ـ 2 ـ


تطرق قليلاً إلى الأرض، ترفع رأسها فجأة، نظرتها مقبلة، مقتحمة، متخلية عن كل تحفظ، بل إنها لمحرضة، ابتسامتها خفيفة، تدعوني بالصمت إلى حيزها، مدارها، أعرف ذلك غير أنني بقيت متثاقلاً في مكاني، متمنيًا شروعها في الانصراف، أو قيامها فجأة معلنة الرغبة في الذهاب.

ماذا يجري لي، أخشى أن يبدو على ملامحي بعض مما يعتمل عندي، أعبر الحدود إلى اللا لياقة غصبًا عني، ماذا كنت أريد تلك الليلة أكثر مما يطالعني الآن، ومع ذلك لا أقدم، تثقلني أمور لا أقدر على تحديدها أو تعيينها، أتساءل محسورًا، هل مرت بي تلك اللحظات حقًّا؟

تلك الليلة في أقدم مطاعم المدينة، السابقة على سفري، كل من التقيته في العاصمة تقريبًا، حتى السيدة التي رافقتني من المطار، تمتد المناضد متجاورة في هيئة مستطيل، يبدو أن بعضهم لمح اهتمامي بها وحوماني حولها، أجلسوها إلى جواري، عندما استقرت والتفتت إليَّ مبتسمة أدركني خجل دفع بي إلى التواري عندي، فكأني أنكمش متداخلاً، غير أني مع سريان الوقت وتتابع الكلمات والأسفار عن المودة صرت أتنسم رائحتها، وألامسها بدون تقارب، عندما خرجت لترد على مكالمة محمولها ترددت لحيظة، ثم نفرت في أثرها، الشارع خالٍ تمامًا، الهواء بارد، تقف مرتدية القميص فقط، تتحمل البرد بتأثير العادة، أو الدفء الذي ما زال ساريًا من الداخل، انتظرت حتى فرغت، عندئذ تقدمت، ملامسًا جيبي بنطالي بطرفي الإبهامين، يمكنني الآن رؤية وضعي بعينيها، الغريب المستفز إلى أقصى حد، أقبلت ملامسًا منحنى كتفيها، غير أنها أزاحت يدي برفق هين، رددت بالعربية الفصحى الممتزجة بلكنة سلافية، «ليس الآن.. ليس الآن».

جرى تجاذب، انتهى بعودتها إلى الداخل بينما بقيت في الفراغ البارد، عدت إلى مقعدي منحنيًا، مبتسمًا بتكلف، مالت عليّ مبتسمة، قالت: إنها تتمنى لي رحلة طيبة، ثم قالت إنني لطيف جدًّا، صادق جدًّا جدًّا.

لم أجبها بلفظ، فقط ابتسامة انتزعتها بصعوبة حتى لا يلوح ضيق، خاصة أن القوم بلغوا حد الرفرفة، بعد احتساء الشراب الجيد والتهام الطعام الجيد أصبح المطعم حارًا.

تميل تجاهي أكثر، خشيت قيامها فجأة، دورانها حول المكتب، الاقتراب أكثر مما يجب، غير أنها حننت ملامحها، ودققت صوتها.

«لماذا تبدو بعيدًا..»..

حدقت بالصمت بينما صورة جزء من شارع الأزهر في ذاكرتي، أحاول عبوره إلى دكان حلواني شهير، لا أنطق، تبدو هي القصية، مسافة لا يمكنني عبورها لو شرعت، كأن ملامحها لم تعبر بصري قط، جد نائية، حدقت صوبها متمنيًا عبور اللحظات التي تجمعنا وتقربنا في المكان وعودتي منفردًا.

«هل أضايقك؟»..

أوشكت على تحريك رأسي نفيًا، غير أنني لم أقدم، تجمدت، وفدت عليّ من ثنايا الذاكرة لحظة زحام عند مدخل نفق مؤدٍ إلى خط المترو الرئيس في مدينة ما.

«ألا ترغب في مصاحبتي إلى أماكنك الأثيرة..؟»..

أقطّب زامًا شفتي بينما تواصل:

«أنت وعدتني بذلك..»..

أرى أشخاصًا يتوافدون واحدًا بعد الآخر في مناسبة ما وأمامي جدار عريض..