يعطي المجتمع المدني المعاصر اهتماماً خاصاً للمعوّقين من الأطفال؛ وقد اصطُلح على تسميتهم أصحاب الحاجات الخاصّة.
جاء هذا التطوّر في النظرة إليهم، والتعامل معهم بعد سلسلة من التجارب التربوية. ويعودُ الفضل إلى منشئتها، الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسّوري، وهي تُعتبرُ من أهمّ شخصيات القرن الماضي، بالنسبة لما قدّمتْه للتربية، خصوصاً في مرحلة الطفولة.
ويشبّه بعضهم عملها باكتشاف كولومبس للقارّة الأميركية؛ إنما تختلفُ عنه لكونها مكتشفة العالم الداخلي لدى الإنسان.
<<<
أبدتْ ماريا اهتماماً خاصاً بالضعفاء وبالأطفال. وفيما كان أقصى ما يمكنُ أن تبلغَهُ الفتاةُ في زمانها هو أن تصبحَ معلمةَ مدرسة، فإن طموحَها قادها إلى دراسة الطبّ، وتخرّجت في العام 1896 لتصبحَ أول طبيبة إيطالية.
لكن الطبَّ لم يبعدْها عن اهتمامِها بالأطفال كما خصّت الفئة المستغَلّة، في الأعمالِ الشاقة باهتمام خاص، غير أن التحوّلَ الحقيقي حدثَ فيما كانت تزورُ مركزاً للأمراضِ العقلية، ولاحظت وجودَ أطفالٍ متخلّفين بين أولئك المرضى؛ فسعتْ إلى مساعدتهم، إذ شعرتْ بقوةِ إدراكها وحسِّها العلمي، أن مكانَ هؤلاء ليس هناك. وأن مشكلتهم تربوية وليست مَرَضية.
لذا راحتْ تحاضرُ في المؤتمرات، وتنشرُ دعوتَها بتكليفٍ من وزير التربية في بلادها. وأثمر سعيُها إنشاءَ أول معهد للأطفال المتخلِّفين في حيّ مكتظِّ بالسكان. وكانت تلك فرصةً ذهبية، اغتنمتها لكي تعملَ مباشرةً مع أطفالٍ تتراوح أعمارُهم بين السنّ الثالثة والسادسة. كما بدأتْ تُجري عليهم تجاربَ تربويةً متوخّيةً مساعدتَهم وتحسينَ أوضاعهم. وتوصّلتْ إلى نتائجَ مذهلة، إذ راح الأطفالُ يتقدّمون، حتى تمكّن الطفلُ المتخلّفُ من بلوغِ مستوى الطفلِ الطبيعي.
وكان نجاحُ تجاربها، دافعاً لانتشار المدارسِ المونتسورية في أحياء مدينة روما. ثم تابعتْ تدريبَ مدرّساتِ حملنَ رسالتَها التي لم تلبثْ أن عمّت، وانتشرتْ حيثما هناك تعليمٌ وتربية.
<<<
في غضونِ ذلك كانت ماريا تتابعُ أبحاثَها لتكتشفَ أسبابَ التخلّفِ عند أطفالٍ طبيعيين.
ويشكِّلُ العام 1908 مرحلةً هامة في حياة هذه الرائدة، إذْ كان بداية لانطلاقِ شهرتِها في العالم، فأصبحتْ تجاربُها حديثَ المهتمين بالتربية وبالطفولة.
وقد كتبتْ تصفُ عملَها آنذاك فقالت: «بدأتُ أعملُ مثلَ فلاّحة أعدّتِ البذار لأرضِ خصبة، إنما كنتُ مخطئة، إذْ لم أعلم أن ما في يدي هو حبّاتُ ذهب لا حنطة. وتجدّدت بين يديّ حكايةُ علاء الدين وفانوسه السحري».
وما ذلك الكنز الذي تلمِّح إليه سوى الخصائص الطبيعية الكامنة خلف قناع الانحراف، لتكشف أن هناك طاقات ومواهب أكثر مما يقدِّرُ الكبار وبذلك تكون قد حرّرت الإنسان من قيودٍ تكبلُهُ وأعطت طفلاً جديداً للوجود.
<<<
وتقوم الطريقة المبتكرة لنبش الكنوز الدفينة في ذات الطفل على عدّة معطيات، منها قدرة الصغير على التعلُّم متى تهيّأت له البيئة الصحيحة والجوّ الملائم. كما أن التعلُّم انبثاق يأتي من الداخل لا عن طريق التلقين الخارجي. وعلى المعلّم أن يجهِّز البيئة، ويترك للطفل حرّية الاكتشاف. ثم التعلُّم بالعمل والتجربة.
ومن أهم ما لاحظت أن الطفل من السن الثالثة وحتى السادسة، يندفع بطبعه كي ينمّي شخصية تخصُّه، عن طريق تشغيل حواسّه وعضلاته وطاقاته الفكرية والروحية.
وعندما نجحت في تجاربها شعرت بأنها تُحققُ أعجوبة.
<<<
راحت طريقة مونتسّوري تنتشر في العالم مثيرةً اهتمام الناس العاديين، كما علماء المجتمع والتربية.
وأخذت البعثات تفدُ إليها من عواصم أوروبا كما من بلاد أبعد. وكان المقرّبون منها يخشون أن يضيع سرُّ أسلوبها في حال وفاتها، فأصرّوا عليها كي تسجّل نظرياتها في كتابها الأول: «طريقة مونتسّوري في تعليم الأطفال».
وقد تُرجمَ هذا الكتابُ إلى معظمِ لغات العالم. ومع انتشاره كانت تنشأ مؤسسات تربوية تحمل اسمَها.
وحين دعيت كي تحاضر في الجامعات الأميركية أثارَ وجودُها اهتماماً كبيراً لدى كلّ المهتمّين بالتربية والتعليم. كما انتشر أسلوبُها وعمَّ بلاداً عدّة، ومنها الهند، أوستراليا، الصين، روسيا، واليابان.
وحيثما ذهبت كانت تُستقبلُ بكل تقدير واحترام، وتُقدَّم لها الأوسمة وميداليات الشرف.
<<<
وعندما توفيت ماريا مونتسّوري، في العام 1952 كانت أفكارُها وتعاليمُها قد انتشرت وعمّت شتى البلدان. وفي طليعة تلك التعاليم دور الطفل في إيجاد عالمٍ أفضل، يعمُّ فيه السلامُ، وقدرةُ الإنسان أن يتغلّبَ وينتصرَ على كثير من السلبيات.