واحد –رجل يعني- كان ماشيًا ثم جلس.
وحين جلس على الأريكة أمام النهر بالعين اختلس.
على الأريكة المجاورة كانت تجلس ساحرة «جميلة يعني»، ولم يكن منخارها مثل الكوز، بل كانت منمنمة الأنف، فراولية الشفتين، ضاربة بالسهم من جعبة الرمش المسنون، آخذة بالأحضان نظرة عينيها الحنون.
كل هذا اختلسه الجالس المفتون، بركن عين في طرف عين.
كان الخريف ينسج –كالكروشيه والدانتيل- منمنماته المحبوكة من خيوط الشمس الذهبي وقطن السحاب المغزول على أرضية من سماء زرقاء صافية، ليس فيها خيط واحد من دخان أو غيم، أو اعتراض من أحد خلق الله على خلق الله.
كان الجو جمالاً صرفًا، والأرض رضا وبركة، وكان الجمال هو البديهة الوحيدة، وكل ما عداه استثناء بل شذوذ عجيب.
وكان ماشيًا ثم جلس، ولما رأى ما رأى وقف على سور النيل وأشهد السموات والأرض على حسنها، قال:
هذه البنت إثبات بما لا يقبل الشك أن صباحنا جميل، وأن نهارنا قشدة، ومساءنا فل وياسمين.
ثم التفت وأشار إليها، فوجد الدكة خالية. وأعتمت السماء فجأة بغيم أسود.
كان الفتى اسمه هشام، وكان يجيد حفر القلوب في شجر الحدائق، وقراءة الطالع في كفوف البنات، وغناء الألحان العاطفية بصوت رديء.
وكان قاعدًا ثم وقف، صامتًا ثم خطب، كان سعيدًا بما رأى، وحينما لم يعد يراه اكتأب ومن عادة الخريف أن يستدرجنا بصحو وشمس دافئة وزوارق السحب البيض، يستدرجنا للخروج والاحتفال بالحياة، ثم يمطر علينا فجأة.
وقد تلقى الفتى هشام دش السماء البارد فما اعترض، وما أسرع في مشيته، ولا احتمى بجريدة أو مظلة، كان مذهولاً بما رأى، ومصدومًا أنه لم يعد يراه.
كانت والدته في البيت تنسج منمنمات أخرى: أكواخًا وفتيات وزهورًا من الكانفاه، أدخلت الإبرة في عين الفتاة المطبوعة في النسيج فوخزت هشام في عينيه.
دخل حجرته وأخرج كراسة الرسم، وأفناها كلها في رسم وجوه البنت من كل الزوايا وكل التعبيرات المتخيلة، لكنه لم يصل أبدًا لما رأى.
هكذا صُنع الله في الأرض: لا تستطيع الأرض أن تأتي بمثله، ومنمنمات الخريف في السموات والخريف لا تضاهيها الكانفاه ولو واحدًا في الألف.
وألم يكن وجه تلك البنت منمنمة مذهلة على خلفية من منمنمات الخريف؟
لكن عزاء الولد –والأم- أن الجمال العابر والفصول المتقلبة تترك في أوراقهم أو في القماش المثقب آيات من الجمال ينسخانها في دأب فلا تضاهي الأصل، لكنها تطمح إليه، تتدرب على الجمال بمحاولات متواصلة للقبض على كنهه العصي المستعصي، محاولات وإن تكن فاشلة ويائسة إلا أنها تستمر في خط تصاعدي نحو المثل الأعلى البشري المتاح للجمال.
لقد اختفى الأرنب في ثوان عن العين المجردة، لكن السلحفاة الساعية في أثره تتقدم بمعدلها البطيء، بالنسبة للأرنب المسافة بينهما تتسع فكأن السلحفاة تسير إلى الوراء، لكن في الواقع السلحفاة تتقدم، وهي بدأبها سوف تستمر في التقدم، وتقطع أشواطًا بالنسبة لمعدل سيرها عظيمة، لكن مقارنتها بقفزة الأرنب مغالطة.
شكرًا لله على الجمال، وعلى القدرة التي منحها بعضنا على محاكاة جماله، فهي -وإن تكن لا تقاس به- متعة لصاحبها ولمن حوله.