من هي المرأة؟
وتسألني الصبيّة التي تعيش إيقاع العصر: ماذا تعني لكِ المرأة؟ أصمت... إذْ كيف بوسع الكلمات أن تعبّر وتشرح وتقول؟
وأنا إمرأة، تقف الآن عند مشارف الغروب. وأعتبرُها فرصةً كي أستعرض تلك الصور الجميلة التي زيَّنتْ عمري. وفرصة نادرة للإعتراف.
وقد كانت المرأة أمّي وأُختي وجدّتي، ومن بعدُ، إبنتي وحفيدتي، والجارة الثرثارة، تنثر كلامها، فتملأ جعبتي بالمشاهد والأوصاف.
وكان ذلك أيام زمان، وقبل أن أُمسكَ بالقلم لأكتبَ عنها... عن المرأة المميَّزة مثلما قدّمتُها في سِيَر نساء نجحن، ودعوتُهن رائدات، ومن الشرق والغرب. كذلك اخترتُها بطلةً لرواياتي وقصصي، في نضالها، وسعيها، كما في نجاحها والإندحار.
ثم تعود الصبية تسألني:
وماذا تعني لكِ المرأة؟
وأقول لها: هي الوجود والكيان، وسببٌ من أسباب حضورنا في الحياة. وهي الحضنُ الدافئ في طفولتي، والمثالُ الإنساني، وكان دائماً قدوتي.
وهي جدّتي، ومصدرُ الحكاية. في حضنها تعلّمتُ الدرسَ الأوّل. ومنذ أن أمسكتُ القلم وأنا أحاولُ تقليدَها ولا أبلغُ المُرتجى، فأعودُ وأكرّرُ المحاولةَ من جديد.
ذلك أن لتلك الحكايات التي غرستْها في الوعي والكيان، نكهةً لم تعدْ تتكرّر.
وأنا أجدُّ في البحثِ عنها، قصّةً تلو قصّة، وروايةً في إثْر رواية، ولا أبلغُ مقامَها.
وكانت أمي.
ويبقى معي وجهُها الرضيّ؛ العطرُ يغمرني والحبّ المطلق، ومن دون مِنّةٍ، أو سؤال. وحين حاولتُ رسمَها، لم أجدْ لصورتها عنواناً سوى كلمة: ملاك.
راضية مرضيّة كانت، وتُوزّع السلام والمحبّة في كل صوب واتجاه.
وقد أُنفقُ عمري في محاولات متكرّرة لأرسمَ صورتها الحقيقية، وأظلُّ مقصّرة، لأن رسم الأم يحتاج إلى مادة غير أرضية، وألوان أثيرية، وتبقى مقصّرة عن بلوغِ مُستوى قامتها.
ثم صارت المرأة إبنتي وحفيدتي.
ولا تسألوني كيف تتحوّل الأمومة فينا، وكيف نرثُها، ومن يغرس في الكيان تلك الأشواق إلى بلوغ أسمى الذرى!...
ولكن المرأة، ماذا تعني لك بحضورها والكيان؟
تعود الصبية تطرح عليّ أسئلتَها؛ وتُطلُّ عليّ وجوهٌ رعتْني، ومنذ الطفولة، في المدرسة كما في المجتمع. وشعرتُ بها تجدُّ وتجتهد بعيدة عن أنانية الرجال وعالمهم الذي يتحكّم به الطموح والسعي إلى السيطرة، من خلال التسلُّط في الحكم، وفرض القوّة، في البيت كما في الوطن. والأمثلة من حولنا، كثيرة، وتفيض عن المكان.
وهي تدركُ، وبكل ما لها من محبّة وحكمة، بأن لا أحد يُمكنه منافستها، إذ لها تلك القوة الناهضة من أعماق بئر عميقة عنوانها الرحمة والمحبّة.
وهي تُعطي ولا تملُّ العطاء. الأم والأخت والزوجة هي، ولا تطلب شيئاً لذاتها في معظم الأحيان، إذ يكفيها أن تكون في هذا الوجود، ينبوع الحنان.
وعندما توقّفت الصبية عن طرح أسئلتها، عدتُ أنا إلى نفسي، أحاسبُها، وأسأل إذا ما كانت الأجوبة والردود التي قدّمتُها تحمل تفسيراً وشرحاً وافياً، أم تزيدُ غموضَ المساءلة وتعقيدها؟
وعندما لم أحظَ بالجواب الوافي لجأتُ إلى الصمت، حيث أجدُ، في كثير من الأحيان، خيرَ جواب.