بياض حيّ الشّيخ جرّاح

زهرة ظاهري
زهرة ظاهري
زهرة ظاهري

 

متكاسلة تقوم، تعدّ فنجان قهوتها المعتاد، تشغّل الراديو علّها تستمع إلى ما يدغدغ مشاعرها، ويزيح عنها خمولها.

«يا أيّها الرُجال أريد أن أعيش»، كانت تلك أوّل كلمات الأغنية التي تناهت إلى سمعها بصوت شجيّ تتخلّله بحّة مثيرة. تذكرت ما قرأته البارحة في إحدى الدراسات عن خبايا الكلمات وأسرارها، وعن إمكانية تطويعها وفهم معانيها. 
. ماذا تقصد المغنّية بهذه الجملة المحتشدة، المزدحمة بالمعنى «أريد أن أعيش».
إذا ما آمنّا بأن كل كلمة حمّالة لمعانٍ كثيرة بحسب السياق وبحسب المجاز، وبحسب فهمنا وتفهمنا؟
لا يمكن للكلمة أن تمثّل دائماً طريقتنا المثلى للفهم، فغالباً ما ينجرّ عن كلمة بسيطة سوء فهم خطير.
بعض الكلمات مخاتلة، تحمل بين طياتها معناها ونقيضها في آن. 
وإلاّ فأيّ معنى للتأويل في قواميسنا ورؤوسنا المنقّبة دائماً عن أصل الحقائق المتوارية؟ رأسها أصبحت مشوّشة تماماً، وذهنها يركض خلف حقيقة الأشياء أو لنقل الكلمات المحفوفة بالغموض والتّلبس.
فتحت الثلّاجة، أخذت علبة الحليب. سكبت ما يعادل الفنجان في مرجل صغير وضعته على الموقد في انتظار أن يصبح الحليب دافئاً.
عقلها لا ينفكّ عن التفكير.
راحت تتأمّل بياض الحليب الناصع، وتتساءل عن أصل الكلمة.
إلام يحيل اللون الأبيض الصّفاء والصّدق والبراءة، السّلام والخير.
ضوء البدايات 
يكفي أنه عكس الأسود القاتم 
الأسود رمز الظّلمة والنهايات الفاجعة.
الأبيض رمز البدايات وإشارات الضوء 
كلّ هذه الأفكار الغريبة كانت تتزاحم بخاطرها تبحث عن معنى للألوان.
لاحظت أنّ بيتها الصغير لا يزخر بألوان كثيرة. الجدران مطلية بالأبيض والرمادي بتدرّجاته الفاتحة والدّاكنة.
هي لا تحب الرمادي
ربما هروباً من الأسود القاتم اختارت منطقة البين بين.
سكبت الحليب في فنجانها الأبيض، أضافت سكّراً أبيض للفنجان. تعمّدت أن تشرب الحليب أبيض دافئاً خالياً من القهوة. 
تنقّلت بين الغرف كفراشة بيضاء تشرع النوافذ ليتسرب ضوء النهار أبيض نديّاً إلى المكان. تستقرّ ببيت الجلوس، تضع ساقاً على ساق محفوفة بضوء النهار المنعش، وهي ترتشف أول رشفة حليب دافئ من فنجانها، تمدّ يدها إلى جهاز التّحكّم عن بعد، تشغّل التلفاز.. بدا الأبيض منتشراً على طول الجنازات، شيوخ ونساء وأطفال يرفلون في بياضهم النّاصع محمولين على الأكتاف إلى مكان أبيض يسمّى مقبرة. المقبرة تغصّ بالمغدورين والضّحايا والمنكوبين.
غصّت الحناجر بالأنين وغرق قلبها في أوّل رشفة حليب أبيض. 
هنا، في هذا المكان، غير المحسوب عن العالم، يتغيّر المعنى. لم يعد ثمّة معنى للكلمات الجوفاء.. ليس ثمة ما يدعو إلى السّكينة والثقة. 
كم تبدو غبية تلك اللغة المحنّطة. اللغة التي تخدعنا ببريق كلماتها الزائفة.
من سيصدّق الآن أن الأبيض عنوان السّلام والحياة الهانئة؟
هنا.. في حي الشّيخ جرّاح يتحوّل المعنى، وتتغير الموازين ليصير الأبيض رمزاً للنهايات الباردة والموت الفاجع.