أعتذر مقدماً للورق، للأسطر، لصمت الأبجدية، للهوامش، للأحاديث المسرّبة، للّغةِ المرهقة، للأثير الذي أدور في مجازه وأسقط، للأخيلة التي لا تكفّ عن البكاء، أعتذر عن هذا الإجهاض الروحيّ، الذي أقترفه الآن بنيّةِ التخفف من ثقل الذكرى.
أعتذر للصداقة التي لم أستطع التشبث بها، للصداقة التي نأيتُ بنفسي عنها، والتي مازلت أذكرها بحنين متعاقب، أعتذر للصداقة التي كلما كانت تقترب من مداي ابتعدت عنها، بِخطواتٍ قادتني نحو منفاي. أعتذر للحبِ المرهق، للهوى الذي مازلت أشهقه سراً، بينما أطاحَ بي علانية، أعتذر للحكايا القديمة، ولرجل علمني معنى اليتم العاطفي، أعتذر للذكرى المعقوفة من ناصيتها، للانتظار الملبّد بالحسرة، لأحراش الليل وللعتمة التي أدس برحمِها أسراري الطاعنة.
أعتذر ليقظة الأحلام المربكة، للخيالاتِ وللصور، أعتذر عن ضبابية هذه الرؤية، التي كلما اتضحت أمامي جعلتها مشوشة، مترنحة ومتداخلة حد التشابه والعمى، أعتذر عن صمت الحرباء الذي أتلون بداخله وأتسكع، أعتذر عن كلِ حالات الصمت التي اقترفتها عنوة، وتحديداً «صمت الداء العشقي» و«صمت الأنا الجامح»، فأنا أعتذر جداً لعراء الصمت الذي أزلتُ عنه الستار بفضائحية.
أعتذر للأقدار الكريمة، للحياة الطيبة، للطرقات المتشابهة، للأرصفة المتسولة، للإنارات السامقة، للنهضة العمرانية التي كلما لامست السحاب قدّرنا الأرض أكثر بسببها، أعتذر للأشجار الجافة عن عطشها، أعتذر للبحر عن تحوله لمكب نفاياتٍ بشرية. أعتذر أخيراً لنفسي الراقدة، لأناي المضطربة، لروحي الهائمة بين حيواتٍ أجهلها، أعتذر لغليان قلبي، لغيرتي، لعصبيتي، ولمزاجيتي الوليدة، عن كلِ المحاولات التي باءت بالفشل العاطفي، أعتذر للأسف الذي لا أحب تكرار صداه في مسامعي.
أعتذر للغةِ القاطعة التي تصعد بي نحو المنتهى، لتسقطني بتوترٍ لا أحتمل كارثيّته. كنتُ بحاجةٍ لاعتذارٍ يمحو كل الهموم المتكدسة بداخلي، بصورةٍ ضمنية أو صريحة، فنحن دوماً نحتاج أن نتخفف من ثقل الاحتشاد النفسي الذي نتجرعه بسبب أعباء الحياة، بسبب الحب، بسبب كثرة الأعمال، بسبب إهمالنا لذواتنا، بسبب تضحياتنا المتكررة والمتكررة والمتزايدة دون هوادة، نحتاج لاعتذار نخطه حتى وإن كنّا لم نخطئ، سيكفينا شعور الراحة الذي سيعقب الاعتذار، والذي سيجعلنا نعانق الحياة مجدداً بكلِ شوائبها، بأملٍ جديدٍ، وبروحٍ خلاقة