سحبت حزمة المال الذي طلبته من فتحة آلة الصراف المالي، ودسسته بعجلة في حقيبة يدي، واستدرت متوجهة نحو الطرف الثاني من الشارع. صاحب المنزل يرفض أن أتأخر يومًا واحدًا على موعد تسليم الإيجار. لا شك أنه بانتظاري الآن، أمام مدخل العمارة، عند كشك بائع الجرائد.
في اليوم الأول من كل شهر، أسحب ثلاثة أرباع راتبي لأسدد مصاريف الثلاثين يومًا الماضية؛ إيجار الشقة، وديون محل البقالة، ومستحقات فواتير الماء والكهرباء والهاتف، وأقساط دراسة أخي وأختي التوأميْن، اللذيْن يعيشان معي، وأحتفظ جانبًا بمبلغ من المال يبقى تحت يدي في حالة ظهور مصاريف مفاجئة لم أحتسبها في جدول احتياجاتنا الشهرية المعتادة.
أعمل في شركة أدوية، وأعيش مع أخويَّ اللذيْن يتابعان دراستهما الثانوية في مدرسة غير بعيدة عن مكان سكننا في قلب الدار البيضاء. أهلي كلهم في البادية. والحياة هناك صعبة. والداي لا يشتكيان، لكنني أعرف بأنهما يجنيان القليل جدًا من حقل الزيتون الصغير الذي يتقاسمان فلاحته مع أعمامي وأزواج عماتي. ولذا، أبعث لهما من حين لآخر بعض المال الذي أجاهد لادخاره من أجلهما.
في مستهل الشهر، أحصل على رخصة خاصة لمغادرة عملي مبكرًا.. رئيسي يعرف أنني أحتاج لهذه الرخصة؛ لتخليص ما بذمتي من ديون.
سيل السيارات المندفع بسرعة البرق لا يريد أن ينتهي. غيرت وضع حزام حقيبتي الصغيرة على كتفي، وشعرت بيد تلمس ذراعي. التفتُّ ووجدت عجوزًا تضع نظارة سوداء، وتحمل عصا تتحسس بها المكان أمامها. سألت باستعطاف: «هلا ساعدني أحد على اجتياز الطريق، رجاء».
أمسكت يدها بلطف وطمأنتها: «هيا يا خالة... أنتِ برفقتي... لنتقدم...».
كانت إشارة المرور قد تغيرت.
تشبثت المرأة بي بخوف ونحن نعبر الطريق.
فكرتني بوالديّ.. في المرات القليلة التي تيسر لهما فيها زيارتنا أنا وأخويَّ.. خوفهما من الزحام، وارتعابهما عندما نضطر لاجتياز الطريق وسط المدينة، يدفعهما إلى التعلق بثيابي والاحتماء بحضني، وكأنني أنا من أنجبهما وليس العكس. التجاؤهما العفوي إليَّ يجعلني أفيض حنانًا وأنا أضمهما إليَّ وأبالغ في طمأنتهما.
شدتني العجوز الكفيفة أكثر إليها عندما بلغنا الطرف الثاني من الشارع، وربتت على ذراعي وهي تشكرني، وتدعو لي بالنجاح والتوفيق، دنيا وآخرة، وقبل أن أنبس بكلمة، مرّ أحدهم قربنا، ودفع المرأة بعنف أفقدها توازنها فوقعت، وأنا معها على الأرض، وتدحرجت عصاها بعيدًا، وتقدم أحد المارة يساعدنا لنقوم.
«أحمق... ألا تنتبه؟!» صحت بغضب وأنا أنظر إلى الفتى الذي صدمنا. شاب نحيل يرتدي سترة رياضية بغطاء رأس سحبه على جبينه، وقد تدلت على جانبي وجهه سماعات هاتفه. ابتعد غير مكترث، وهو يحرك رأسه يمينًا وشمالاً، مدندنًا بموسيقى لا يسمعه غيره.
«هل تأذيتِ يا خالة؟» سألت المرأة بانشغال وأنا أتفحصها.. «هذا المعتوه لم يكلف نفسه حتى عناء الاعتذار لنا...».
«لا تقلقي يا ابنتي... أنا بخير... لكنني تأخرت...» ردت العجوز وهي تشكرني وتبتعد بعجلة... وواصلت طريقي وأنا أتفقد ثيابي. لحسن الحظ لم يتسخ طقم عملي.
أحكمت غلق حقيبتي التي انفتحت أثناء وقوعي. وتسرب فجأة شيء من الشك إلى ذهني.
كيف انفتحت؟ قفلها محكم، ولا يمكن إدارته بسهولة.
فتحت الحقيبة وأنا أرتجف. ولم أجد أثرًا للمال.
لقد سرقت.
عدت أجري إلى حيث وقعت، أنا والمرأة.
نظرت حولي بجنون وتعلقت عيناي بالباص الذي كان يشق طريقه وسط زحام الطريق. وجهان خلف زجاج إحدى نوافذه أثارا انتباهي؛ وجه المرأة العجوز التي لم تكن تضع نظارتها السوداء، ووجه الشاب ذي السماعات، الذي صدمها.
الاثنان كانا يحدقان فيَّ بخبث.
غمز الفتى ورفع حزمة مال نحوي..
وضحكت العجوز..
ومرت الحافلة.