كان ينتظرني عند باب المسرح الخلفي، لمحته من بعيد، لم تخف علي قامته الطويلة، جسده النحيل، وشعره الكثيف المجعد المربوط أسفل الرأس، تقدمت بامتعاض نحوه، وابتسم وهو يزيل نظارته السوداء: "كالعادة.. وجدت نفسي أطرق الأبواب كالمعتوه بحثًا عنك، متى ستستقرين في عنوان واحد؟"
هززت كتفي وأجبته: "عندما يكون لدي دخل قار، أهلاً وسهلاً.. كيف عثرت علي؟"
"السائل لا يتوه، وبالمناسبة.. مبروك الفيلم، ولو أنني تعبت قبل أن أتعرف عليك فيه، أقصد على.. جثتك..".
تنهدت طويلاً واعترفت بكثير من الحرج: "الدور صغير.. ولكنه مكنني من تدبير أموري بعض الوقت، أنا محظوظة لأن المخرج اختارني من بين مئات المرشحات..".
"مخرجك ذاك أحمق، وأنت أيضا بالمناسبة..".
لم تكن لدي أية رغبة في مجادلته، الوقت يمر وزملائي يتوافدون.
"نلتقي بعد انتهاء المسرحية، سأنتظرك هنا..".
ابتعد، ودلفت بانفعال إلى الداخل وأنا أغلي.
لماذا لا يتركني وشأني؟ أحاول أن أتدبر أموري وحدي، ولا حاجة لي به ولا بعروضه.
منذ سنوات وابن عمي يحاول إقناعي بالسفر معه إلى بلجيكا؛ حيث يعيش مع والديه وأخته، وأنا أمانع.
مات والداي وأنا صغيرة، لا أتذكر الكثير عنهما، رفض جدي أن يترك عمي يأخذني معه إلى الخارج، كانت هناك مشاكل بخصوص زوجته التي لم تتقبل أمر احتضاني، بقيت مع جدي في مراكش، وبعد أن أنهيت دراستي الثانوية التحقت بمعهد المهن السينمائية؛ ضدًا عن رغبته، وانطلقت أشق حياتي في مجال صعب وجديد على أسرتنا.
مات جداي، وبقيت وحدي، أتنقل من مدينة إلى أخرى، ولا أحظى سوى بأدوار كومبارس متواضعة، كان آخرها الدور الذي منحه لي أحد كبار مخرجي البلد في فيلمه الأخير.
دور جثة.
غيرت ملابسي وتناولت المكنسة التي يفترض أن أمر بها على الخشبة، خلف أبطال المسرحية،
أسند إليّ دور شغالة فندق.
دور كومبارس آخر.
لا أدري إلى متى سأظل أدور في نفس الحلقة، أشعر بأن لديّ ما أقدمه، ولكنني لا أعرف كيف أصل إلى الناس، ولا كيف أقنع صناع الأفلام والمسرحيات بأدائي، ولا فرصة تتاح لي لإظهار موهبتي.
كان عند موعده، أمام الباب الخلفي، غمزت لي إحدى العاملات وهي تنظر إليه، وشعرت بأن الأخريات يتابعن أيضًا اقترابه مني، وتملكني الغيظ، وبادرته: "ينبغي أن تتوقف عن ملاحقتي بهذا الشكل، الناس هنا يفكرون في شيء واحد فقط..".
أمسك ذراعي وسار بي باتجاه ساحة الميدان؛ حيث اصطفت المقاهي والمطاعم الغاصة بالزبائن: "أخبريهم الحقيقة، ابن عمك جاء للمرة العاشرة يطلب يدك، وأنت ترفضين..".
" أنت مجنون، إن كان هذا ما تريد إخباري به..".
"لا، تعالي.. لنتناول شيئًا..".
رافقته إلى أحد المطاعم وأنا أنظر حولي بقلق، عانيت الأمرّين لأحافظ على سمعة جيدة في وسط، تُربط فيه العلاقات وتفك بسهولة مخيفة، شعرت بالجوع وأنا أتفحص الأطباق المعروضة على قائمة الطعام، وأخذ هو يتحدث: "والدي مريض، مريض جدًا، وهو يصر على مجيئك معي..".
كل مرة يقول لي نفس الكلام، صحة عمي متدهورة، وهو يريدني قربه، وأنا أعرف أن زوجته ترفض ذلك، ولا أود أن أحشر نفسي في مشاكل عائلية أنا في غنى عنها، ثم.. ماذا سأفعل هناك؟ هل ستعرض علي أدوارًا في السينما البلجيكية؟
"والدي يموت، وهو يريد أن يبيع المتجر.. وأمي على وشك الانهيار.. يجب أن نقبل بشرطه.. لا يمكن أن ندعه يضيّع شقاء عمره..".
نظرت إليه بصمت.
" أتفهمين؟ قد لا ترغبين في الزواج.. وأنا أيضًا، لست مستعدًا لتقييد حريتي الآن.. ولكن.. هل تعرفين قيمة المتجر؟ هل تدركين حجم خسارتنا إن باعه؟ هو لا يكف عن التحدث عن أبيك، يقول إنه مشروعهما معًا، وأن لديك الحق في نصف قيمته.. والدك مات منذ أكثر من عشرين سنة.. وأبي وحده نمّى تجارته، ولاقى الويل ليحافظ عليها.. وليس من الإنصاف أن يبيع شقاء عمره ويتنازل لك عن النصف.. ليس عدلاً، أرباح المتجر كبيرة.. ولدي أفكار كثيرة لتطويره.. وفتح فروع له.. ولكن يجب إرضاء والدي، يجب أن نتزوج.. وأعدك.. سأحقق لك كل ما تريدين.. ولن أقف في وجه أي من طموحاتك.. يجب أن تقبلي.. أنت ممثلة، أليس كذلك؟ اعتبري الأمر إن شئت دورًا ستؤدينه لفترة معينة.. وتتلقين تعويضًا مجزيًا عنه، والدي يموت.. حالته ميئوس منها.. هل تفهمين..؟".
أفهم جدًا.
وضعت شوكتي، وقمت.
لم تعد لدي أية رغبة في الأكل، وصحبة ابن عمي صارت تقرفني.
"إلى أين؟ لا يمكنك أن تذهبي، أنا أعرض عليك دورًا حقيقيًا، بدل مسخرة الكومبارس التي استحليتها.. عودي.. قلت لك.. لم ننته بعد..".
بل انتهينا.
شعرت وأنا أغادر المكان، بأن آخر شعرة تربطني بابن عمي قد قطعت