يجلس على الأرض، قبالة المدرسة. جسده الهزيل المتكوّم تحت ظل إحدى أشجار الرصيف الأسمنتي الضيق يسبح في جلبابه البني الحالك اللون. جلباب بالٍ ضاعت ملامح قصته، وتمزقت بعض أطرافه، وخيطت أكثر من مرة. رأسه غارق بين عظمتي الكتفين المنتصبتين كدعامتين تثبتان الجسد الهرم وتمنعانه من أن يهوي أرضًا.
لمحته من شرفة مكتب المديرة، حيث كنت أجلس بانتظار أجرتي. أشحت بوجهي باكتئاب، وابتسمت مدام ثريا، وبادرتني: «المرء لا يعرف كيف يتصرف... أليس كذلك...؟»..
لم أفهم قصدها. مظروف راتبي كان أمامي. لكنني لم أمدّ يدي له.
«عفوًا...؟» سألتها ووجنتاي تحمران رغمًا عني.
«ذاك المتسول...» أشارت بذقنها إلى الشرفة «كان الله في عونه. لا نعرف شيئًا عن وضعه. ولكن قعدته البئيسة تقطع القلب... وتحرج المرء الذي يمر قربه. أليس كذلك...؟ إن نظر إليه يشعر بالذنب... وإن تظاهر بأنه لا يراه، يتضاعف شعوره بالذنب».
مدام ثريا، صاحبة المدرسة الخاصة التي أعمل فيها، سيدة بالغة الطيبة. لم أعد أذكر المرات التي لجأت فيها إليها لطلب الحصول على راتبي قبل نهاية الشهر.
لم تردني يومًا. ولم تعلّق بكلمة على طلباتي.
دفعت مظروف النقود نحوي، ومددت أخيرًا يدي إليه، وعيناي تفيضان امتنانًا.
«مسكين...» واصلت كلامها وهي تتطلع إلى العجوز عبر شرفتها: «قهر الزمان مرّ. وقهر الأهل أمرّ. من يدري ما كمّ المصائب الذي انهال عليه ليصل إلى هذه الحال من العوز والبؤس...؟».
فتحت فمي... وأغلقته دون أن أنطق بكلمة.
رنّ هاتفها، ووقفت أنحني شاكرة، وأستأذن لاستئناف عملي.
في دماغي آلة حساب تجمع وتطرح في نفس الوقت فواتيري المتراكمة. أجرة الشقة، وفواتير الماء والكهرباء، وديون البقال والجزار، وأدوية أمي، ومصاريف مدارس إخوتي، وأجرة الباص، ومصروف الأكل الشهري...
أصوات تلامذتي الذين استغلوا فرصة غيابي لملاحقة بعضهم بعضًا في الصف والتعارك بكرات الورق والأقلام، والصياح بدون سبب، وصلتني قبل أن أنزل إلى الدور الأرضي. بعض من زميلاتي كنّ يقفن أمام أبواب صفوفهن مترقبات عودتي وأعينهن تقدح شررًا.
«غير معقول... كيف يمكننا العمل في هذا الضجيج؟».
«على المديرة أن تتصرف... تلامذتك تجاوزوا كل الحدود...».
«كيف تتركينهم وحدهم؟ ماذا لو وقعت كارثة في الصف؟ أنت المسؤولة الوحيدة... أتعرفين...؟».
نعم، أعرف. وأعرف أيضًا أن حالة أمي الصحية ستتدهور إن لم تحصل على دوائها اليوم، وإخوتي لن يتناولوا وجباتهم إن لم أملأ سلة تموين المطبخ، وصاحب الشقة والجزار والبقال سيفضحونني ويمرغون اسم أهلي في الأرض إن لم أنقدهم أجرهم اليوم قبل الغد. أعرف كل ذلك، وأعرف أيضًا بأنني إن لم أصعد إلى المديرة الآن، وسط الحصص، سأجد مكتبها مغلقًا بعد انتهاء الدوام، وسأضطر للعودة إلى أمي وإخوتي خاوية الوفاض...
جريت إلى تلامذتي أهدّئهم، ودماغي لا يزال يحسب ويعدّ.
أهمّ ما في الأمر أدوية أمي. نكْستها قبل شهرين كادت تودي بحياتها. لم أدرِ كيف أتصرف لأرعاها وأقضي شؤون البيت والأولاد وأداوم على عملي. ولولا لطف المديرة وتقديرها لظروفي لكنت خسرت الوظيفة التي نعتاش منها. والدي -رحمه الله- ترك لي حملاً ثقيلاً. أربعة إخوة صغار يحتاجون إلى الكثير والكثير...
جمعت أغراضي ببطء بعد نهاية الدوام، وقمت أعيد توضيب الكراسي والمقاعد، وأجمع الأوراق التي رماها الصغار أرضًا، وأتأخر قدر ما أستطيع حتى أضمن مغادرة جميع زملائي.
لم أرغب في أن يراني أحد وأنا أعطيه المال.
عمّ السكون المكان، وأخذت حقيبتي وخرجت من المدرسة وأنا أتنهد باستسلام.
لم يزل في مكانه. يفترش الأرض تحت شجرة السنديان الوارفة، ويعبث بأحد أغصانها.
اجتزت الطريق إليه، ونهض متثاقلاً وهو ينفض ما علق بجلبابه البالي من تراب وحشائش وأوراق.
«خرج الجميع، ما عداك. ماذا؟ هل كنتِ تختبئين؟ هل ظننت بأنني سأذهب دون أن آخذ حقي؟ أنت تحلمين...».
مددت إلى صاحب الشقة أجرته. عدّ النقود أمامي، وبعد أن اطمأن إلى أنها لا تنقص درهمًا، هزّ رأسه محييًا، وابتعد وهو يجرّ بتثاقل نعله الجلدي المرتوق.
لا ينقصه خير. لديه من الأملاك والأراضي والأطيان ما أعجز عن عدّه. ولا أثر للنعمة التي يرفل فيها على ظهره.