نهاية الصيف، قطرات مطر خفيفة تسيل على زجاج النافذة، الشاب النحيل الأشقر الجالس قربها يردد شتائم بذيئة وهو يكلم صاحبيه الجالسين في المقعد أمامهما: "لماذا لا نستطيع أن نحظى بفصول أربعة ككل البشر؟ بلاد ملعونة، مطر في الربيع.. مطر في الصيف.. ما هذا الهراء..؟
الاثنان يضحكان ويردان بخبث: "اهدأ.. انظر إلى الجميلة قربك، إنها تقرأ.. فتاة مثقفة، أنت محظوظ.."
قهقه بسخرية، "محظوظ؟ بهذا الشيء فوق رأسها..؟ أي نوع من الجمال هذا..؟"
أنظار الثلاثة، وبعض الركاب، تتطلع إليها.. تقيم شكلها.. سلبًا كالعادة طبعًا،
تحرك جارها النحيف قربها، ومدت بعجلة يدها إلى القبعة القطنية التي تخفي شعرها: "أرجوك.. أنا مريضة.. وشعري تساقط بالكامل.. ولا يمكن لي أن أزيل قبعتي..".
لم تكن تكذب، ولم تكن صادقةً تمامًا.
حصص علاجها الكيميائي انتهت، والأطباء أخبروها بأنها شفيت، ولكن شعرها لم ينمُ بعدُ بالوتيرة التي تريدها.
تعود إلى كتابها، رواية الكيميائي لباولو كويلو.
المطر يواصل هطوله، والشباب الثلاثة لا يتوقفون عن الحديث بصوت عالٍ، وإن كانوا قد تركوها في حالها أخيرًا.
ليس من السهل العيش بأمان وكرامة في الغربة، سبع سنوات وهي هنا، تصارع من أجل.. من أجل ماذا بالتحديد؟ عائلتها التي تنتظر منها أن تعود إلى الوطن بشهادة عالية، وتشتغل وتساعد والدها في مصروف البيت؟ من أجل صحتها التي تدهورت سريعًا واضطرتها لترك الدراسة مؤقتًا والعمل لإنقاذ حياتها؟ من أجل أحلامها التي تبدو بعيدة المنال الآن؟ من أجل مستقبلها الذي لا تعرف عنه شيئا..؟
لا تدري.
الآن وهي في طريقها إلى غرفتها الكئيبة في الضواحي، لا تفكر سوى في شيء واحد فقط، هل تبقى من فطور الصباح ما يكفي لسد جوعها قبل أن تدرس قليلاً وتنام؛ استعدادًا ليوم عمل جديد ومضن غدًا..؟
كلمات كويلو الشاعرية تأخذها إلى عالم ثان، عالم أسطوري يتداخل فيه الواقع والخيال، وتصبح فيه كل المستحيلات ممكنة.
أخبرها الأطباء بأنه بإمكانها أن تعود لحياتها الطبيعية وتواصل دراستها بكل ثقة، جسدها الشاب عرف كيف يهزم المرض، كلامهم المطمئن أيقظ حماسها، ودفعها للالتحاق بالجامعة من جديد، بإمكانها أن تعمل وتدرس، ستكلم صاحبة صالون الكوافير، وستسهر، وتذاكر، وتنجح، وتحقق ما جاءت من أجله إلى فرنسا.
تستغل ساعات فراغها القليلة لتقرأ الكتب المقررة وتدرس ملخصات المحاضرات التي لا تستطيع أن تتابعها، كتاب كويلو هذا جزء من مقررها، جزء ساحر ملأ عليها حياتها؛ حتى أنها نسيت نفسها، ووجدت صاحبة الصالون تستدعيها إلى مكتبها وتعاتبها بلطف فيه شيء من الصرامة: "نبيلة يا فتاتي.. أنت بنت طيبة.. وشغلك ممتاز، الكل يثني على ضربة مقصك.. ولكن يا عزيزتي.. جانب العلاقات العامة أهم ما في مهنتنا، تحدثي مع الزبونات في كل شيء، في السينما.. في الموسيقى.. في الموضة.. شاركيهن النميمة.. استمعي لقصصهن العاطفية، واحكي لهن ما شئت عن علاقاتك، ولا يهم إن كان ما تقولينه كذبًا.. ولكن.. أناشدك إن كنت ترغبين أن تبقي بيننا.. كفي عن كسر أدمغتهن بأحاديثك عن الكتب التي قرأتها، محلنا ليس مكتبة.. وزبوناتنا يأتين لتصفيف الشعر، وليس لملء الرأس بالترهات..".
احمرّ خداها وهي تغادر المكتب، لم تلحظ أنها تتحدث أكثر مما ينبغي عن قراءاتها، توقفت الحافلة في المحطة التي تنزل فيها، ودست بعجلة كتابها في حقيبتها وقامت، وتنحى لها الشاب النحيل لتمر، وهمس بتردد في أذنها وهي تتجاوزه: "هل.. هل كان ذلك صعبًا؟".
تطلعت إليه متسائلة وأشار إلى رأسها: "العلاج الكيميائي.. وما إلى ذلك.. هل ينجح ذلك فعلاً..؟".
بدا لها يافعًا جدًا، الفتى لم يتجاوز السابعة عشرة على ما يبدو، "نعم، لقد نجح معي، خسرت شعري وبعض وزني.. لكنني لازلت على قيد الحياة..".
هزّ رأسه واعترف: "أنا أيضًا مريض، وقد رفضت العلاج، ولكن..".
شدت ذراعه وشجعته: "لا تتردد، لو تعرف كيف كانت ظروفي.. ورغم ذلك.. خضعت للعلاج.. وشفيت، لا تتردد..".
ابتسم لها، وبدا أصغر أيضًا من العمر الذي أعطته له.
قفزت من الحافلة وجرت بخفة وسط المطر.
"ما عنوان كتابك؟ صاح الولد من النافذة "قد يساعدني..".
"الكيميائي لباولو كويلو" ردت عليه وهي تضحك.
ثمة لحظات يغمرك فيها فيض من البهجة، وتشعر بأنك تطير، وبأن المستحيل كلمة يمكن أن تمحوها بسهولة من معجم البشر.