لديها تلك العادة الغريبة. تتخيل عدة إجابات ممكنة لمواقف معينة تعيشها. سبب لها الأمر إحراجاً مرات كثيرة.
تعرف كيف تبدو... ينتظر الآخرون ردودها، ويشرد ذهنها ودماغها يفيض بسيل من الإجابات الغريبة المتناقضة.
يظن البعض بأنها ثقيلة الفهم، أو خجولة لحد البله، أو باردة الأعصاب، سيئة الأدب... أو حتى أن بها مساً. لكنها وحدها تعرف ما يدور في دماغها. كلام كثير وتحليل درامي وجمل سينمائية مضحكة أحياناً.
داؤها استفحل منذ أن بدأت تعمل لحسابه. لا يمكن أن يفتح فمه دون أن تدور محركات دماغها وتنهال الردود والتعليقات والاستفهامات والأسئلة والأجوبة الصامتة. دائماً صامتة...
رئيس أكبر أقسام البنك الذي عينها سكرتيرة خاصة يثيرها حد الجنون. الرجل وسيم، طيب السمعة، حلو اللسان، مثقف، رياضي... ولا يحمل دبلة. أين ذهبت شابات المدينة؟ كيف لم تحاول أي عروس الفوز به؟ ألا يراه أحد؟ كيف يعقل أن يظل حراً... وهو بهذا البهاء؟
الأسئلة تتناسل في دماغها، وهما يتناولان غذاء سريعاً. رافقته في مهمة عمل إلى نيويورك. أيام الأسبوع تمضي وهما يتنقلان من اجتماع الى آخر.
منذ أن بدأت تعمل لحسابه، أي منذ شهرين وخمسة أيام وهو يعاملها كما لو كانت قطعة أثاث تابعة لمكتبه. لا يعبأ سوى بالمهمات التي يكلفها بها.
حملق فيها فجأة وهي تعبث بمحتوى صحنها... وصحح وضع نظارته الطبية الأنيقة ويتطلع إليها بقلق... وسألها: «ألا تأكلين؟ هل أطلب لك شيئا آخر؟»
«رباه لا... لن أستطيع أن أبلع شيئاً...»
«هل حقاً تطلع إلي؟ هذا الرجل لا يراني أبداً..»
«هل تغير شيء في علاقتنا؟ هل تجمعنا علاقة؟..»
بدأ سيل الأفكار يتزاحم في دماغها. «شيء ما تغير. لم ينظر إليّ من قبل هكذا... رباه... كيف يحدث هذا في آخر يوم نقضيه هنا. لِمَ لم يرفع عينيه نحوي في بداية الأسبوع؟ كان يمكن أن تتطور الأمور بشكل أسرع....»
عاد يسألها، وبلعت ريقها وطمأنته بلهجة باردة.
تمنت لو لطمت خدها وهي تستمع لنفسها. تتحدث كالآلة...
انقضت فترة ما بعد الظهر سريعاً. العمل كثير وسيادته متطلب... وهي لا تشكو... لا تشكو أبداً... لكنها تحلم بلحظة مقتطعة من الرسميات... لحظة ينظر إليها فيها كما فعل عند الغذاء.
رحلة عودتهما لم تختلف عن غيرها. كان متعباً. تصفح إيميلاته بعض الوقت، ثم نزع نظارته وسحب فوق عينيه شريط الاسترخاء الداكن... ونام.
وبقيت تنظر إليه وقلبها يخفق... يخفق...
«هل رآها حقاً... لحظة تطلع إليها عند الغذاء؟ هل شعر بما تحس به؟ هل كان قلقاً فعلاً عليها؟ بالطبع كان قلقاً... وإلا ما كان اهتم بما ترميه في جوفها. ربما.. ربما لديه هو أيضاً مشكلة في التعبير عما يحس به. قد يكون ذلك سبب عدم ارتباطه لحد الآن. ربما عليها أن تطول بالها... وتدعه يأتي إليها... لا ينفع الاستعجال في هذه الأمور... أليس كذلك؟»
سيل الأفكار كالعادة لا يتوقف.
غادرا الطائرة بصمت. لندن رمادية، باردة، موحشة كالعادة.
ما كاد التاكسي يتحرك بهما حتى بدأت تمطر.
شعرت بالإحباط. لا يمكن أن تكون قد تخيلت كل ما جرى. لكن.. ما الذي جرى بالضبط؟ ذهبا إلى نيويورك في رحلة عمل، اشتغلا كثيراً، قابلا العديد من الأشخاص، نفذا تعليمات الإدارة، وتناولا الغذاء ذات ظهيرة ساحرة، ونظر إليها...
توقف التاكسي أمام البناية الكئيبة التي تقطن فيها. تطلعت إليه ودار دماغها.
«احم...» تنحنح بحرج واضح، وانتبهت إلى أنها شردت من جديد.
«إلى اللقاء..» قالت بتوتر، ورد بنبرة رسمية باردة: «في المكتب. راجعي نسخة التقارير التي حولت إلى إيميلك رجاء»
حياها بواب البناية وسألها عن نيويورك. ولم تجبه.
صعدت بتجهم السلالم وأعصابها تحترق.
لا تحدث أحداً عندما تنتابها نوبة غضب.