منذ أن أرسلت ابني المراهق الى مخيم صيفي في أقصى شمال البلاد وأمه لا تكف عن البكاء. الولد ما زال صغيرًا. من سيأخذ باله منه؟ من سيراقب أكله وشربه ونظافته؟ كيف نرميه وسط الغرباء وهو وحيدنا؟ أي قلب هذا الذي أملكه؟ كيف أستطيع تحمل بعده؟!
لم توافق على فكرة التخييم. أخضعتها رغمًا عنها للأمر الواقع. وفي الحقيقة كل ذلك كان من أجل مصلحة الولد. أمه دللته زيادة عن اللزوم، وهي في طريقها الى أن تعزله عن العالم، وتقوض كل محاولاته لبناء شخصيته الخاصة وكيانه المستقل.
أنجبناه بعد عناء. بنيتها الجسمانية الضعيفة وجسدها النحيل لم يتحملا أشهر الحمل الطويلة. تكررت عمليات إجهاضها المفاجئة، وفشلنا رغم تقيدنا بكل نصائح الأطباء في الاحتفاظ بالجنين سليمًا معافًى حتى موعد الوضع. وحين سلمنا أمرنا لله ورضينا بالنصيب جاء عطية، طفلنا الوحيد الذي كان فعلاً عطية من الله. مولود ذكر في كامل الصحة والعافية. حول حياتنا إلى مهرجان فرح وبهجة، وعوضنا عن سنين يأسنا وعذابنا الطويلة.
أحطناه بحبنا ورعايتنا، وبالغت زوجتي في التعلق به والخوف عليه لدرجة أنها ضيقت عليه ومنعته من الاختلاط بقرنائه في الحي والمدرسة. وتنامى مع خوفها عليه اهتمامها المرضي بنظافة أكله وشربه ونقاء سريره وملابسه لدرجة أنها كانت تقضي جزءًا كبيرًا من اليوم في دعك الثياب ونفض الفراش وتعقيم المطبخ وغسل الأكل عشرات المرات.
لم أعد أعرفها، ولم يسعفني لإنقاذ الولد من هواجسها سوى أن الله مَنَّ عليه بعقل راجح جعله يتفهم خوف أمه عليه، ويستمع إليَّ، ويحاول معي، رغم صغر سنه، إقناعها بالكف عن تضخيم الأمور وتخيل الأسوأ دائمًا. وجاءت فكرة المخيم لتفتح له آفاقًا جديدة لتدبير شؤونه بعيدًا عن هيمنتها وهواجسها.
مر شهر على غيابه وهي لا يهنأ لها بال؛ تبكي بالليل والنهار، وتتوسل إليَّ لأعيده إلى حضنها، وأمانع. وأنا أشعر في أعماقي بقلق متزايد عليه، أنا أيضًا. مكالمات عطية قليلة ومختصرة. لا يعطينا أي تفاصيل. يردد فقط بأن كل الأمور على ما يرام، وبأنه سعيد في المخيم ولا يحتاج إلى شيء.
هل تسرعت في الدفع به لخوض تجربة لم يُهيَّأ لها ولم يعتد عليها؟ لم يسبق له أن سافر وحده، ولم يحظ مثل أقرانه بفرص الخروج والتجوال دون صحبة والديه.
بدأ القلق يتملكني، ووجدت نفسي أرضخ في النهاية لإلحاح زوجتي، وأستعد أنا وهي للذهاب بأنفسنا إلى الشمال لاستقصاء الأمور.
استقلينا السيارة، وقضينا اليوم بأكمله في السفر من مدينتنا البحرية الصغيرة في الجنوب إلى أقصى نقطة في الشمال، في منتجع كابو نيغرو حيث حطت مجموعة التخييم رحالها. أقنعتها بأن نذهب رأسًا إلى الفندق لننام ونقصد المخيم في اليوم التالي. وقبلت بامتعاض. وما أن حل الصباح حتى أيقظتني وقد ارتدت ملابسها واستعدت للخروج.
أخبرنا أحد مسؤولي المخيم بأن الأولاد ذهبوا مع مرافقيهم إلى ملعب الغولف لحضور حصة تعريفية بهذه الرياضة. لحقناهم بالسيارة، ووجدنا صعوبة كبيرة في إقناع القيِّمين هناك بأننا أولياء أمور أحد الأطفال، وقد قدمنا من منطقة بعيدة للاطمئنان عليه واستقاء أخباره. دلفنا أخيرًا إلى الملعب الأخضر الشاسع المطل على البحر، وانطلقنا وسط مروج بديعة مكسوة بعشب يانع جُزَّ بعناية بالغة، وقد تخللته برك مياه صافية وتجمعات أشجار وارفة منثورة هنا وهناك. لمحنا كوكبة الصغار غير بعيدة عنا، ووقفنا ننظر إليهم وهم متحلقون حول شخص يشرح لهم قواعد اللعبة. انتظرنا انتهاء حصتهم، والتفتت زوجتي إليَّ، بضع أكياس ورقية مرمية على العشب تحت إحدى الأشجار، وهتفت: «معقول هذا؟ يرمون القمامة وسط هذه الخضرة البديعة؟ أي درس يعلمونه لأولادنا؟!».
وانطلقت دون أن تنتظر ردي تجمع الأكياس وترميها في صندوق النفايات، وتعود وهي تنفض يديها بتقزز وتسأل: «هل تحمل منديلاً؟ هاته. دهون الهامبرغر التصقت بيدي. أي قرف هذا؟!».
في اللحظة نفسها، نادى أحدهم من بعيد: «هيه. أنت، يا مدام» التفتنا. ثلاثة رجال أمن يجرون نحونا. وخلفهم مجموعة الأطفال الذين تقدموا أيضًا بعد انتهاء حصتهم. «إنه غذاؤنا. ماذا فعلتِ به؟! هل جُننتِ؟!» صاح أحد الرجال، والتفت الآخران إلى صندوق القمامة، وضحك الأولاد، واندفع ابننا عطية نحونا وقد احمر وجهه: «بابا، ماما، ماذا تفعلان هنا؟!».
ارتفع صخب الصغار، وقلبت نظراتي بين زوجتي الذاهلة، وقد شدَّت منديلي المتسخ على صدرها والحرج يلجم لسانها، وبين رجال الأمن الثلاثة الذين هُرعوا إلى صندوق القمامة، وشتائمهم تسبقهم، وانفجرت ضاحكًا وقد دمعت عيناي حتى لم أعد أرى شيئًا.