رمى حقيبته على ضفة البحيرة وجلس قربها، ومد ساقيه حتى لمستا الماء، داعب بهما صفحته وهو يرتجف، الغمة التي تعصر قلبه لا تريد أن تزول.
لا يستطيع أن يصدق أنها تخلت عنه..
اقتربت بجعة سوداء ضخمة من الركن القصي الذي انتحى فيه، بجعة بشعة.. بريشها الداكن الذي تتخلله أطياف رمادية خفيفة، ومنقارها الوردي الكبير، كم يكره اللون الأسود.. كم يمقته..
حرك ذراعيه في الهواء ليرعبها، لكنها استمرت في الاقتراب، حاول أن يبلع الغصة التي كانت تحبس حلقه، وصاح بصوت متكسر ينهر الطائر الذي لم يكترث لصراخه، واستمر يتقدم نحوه.
شعر بعينيه تفيضان دمعًا وهو يتذكر شجارهما، قالا كلامًا فظيعًا لبعضهما، لم يكن عليها استفزازه، تعرف أنها أخطأت، لماذا لم تلجم لسانها وتنتظر مرور العاصفة.. وتعتذر.. وتعده بأنها لن تكرر فعلتها مرة ثانية..؟
لماذا العناد؟ وما معنى التهديدات التي أطلقتها في وجهه..؟ أهذه نهاية عشرتهما..؟
دارت البجعة حوله ومدت عنقها الطويل، وصاح فيها من جديد، تريد فتات خبز..؟ لا يوجد لديه، لم ينتح جانبًا ليطعم طيور البحيرة، لتعد من حيث أتت وتبحث عن قوتها لدى زوار المنتزه.. أولائك السعداء الذين أتوا ليستمتعوا بهذا اليوم الصيفي الدافئ رفقة أحبتهم وأصحابهم، لتذهب بعيدًا..
فستان زوجته كان في لون ريش البجعة اللعينة، أسود حالك بحاشية رمادية رقيقة مطعمة بعقيق من نفس اللون، قطعة ثياب شفافة يمكن أن تكرمش وتجمع في كف واحدة، فضيحة حقيقية.
فاجأته وسط الحضور، ولم يدر كيف يتصرف؛ خصوصًا بعد أن التف حولها زملاؤه وأمطرتها فلاشات القائمين على تغطية الحفل.
الأمسية التي كان من المفترض أن يتسلم فيها جائزة المقالة الصحفية المتميزة، تحولت إلى كابوس مخيف لا يعرف كيف يستيقظ منه، لم يطلب حضورها معه، كانت تشكو طيلة اليومين السابقين من صداع رأس مزمن، وكانت تخطط لأخذ موعد مع الطبيب، فكر أن يتركها ترتاح، كيف علمت بأمر الأمسية؟ وكيف تجرأت على مفاجأته فيها.. بحالتها تلك؟
واصلت البجعة دورانها حوله، عاد يلوح لها بذراعيه ويخبط الماء بقدميه اللتين تبللتا تمامًا، «تبًا.. اغربي عن وجهي..»، صرخ بحنق في وجه الطائر وهو يشعر بساقيه تنزلقان وتكادان توقعانه في البحيرة، تشبث بحافة الضفة وتراجع للوراء وهو يسب البجعة، ويمد يده إلى حقيبة ظهره ليهددها بها.
سمع وشوشة قريبة، والتفت، رجل وابنه ينظران إليه بوجوم، والطفل يسأل: «بابا.. لماذا يشتم هذا الرجل تلك البجعة اللطيفة..؟».
«لنبتعد يا ابني»، رد الأب بصرامة «هناك أشخاص غلاظ لا ينبغي السماح لهم بولوج المنتزهات وتهديد الحيوانات..».
شعر برغبة في البكاء والضحك معًا، الرجل لا يفقه شيئًا، مقالته الصحفية التي فازت بالجائزة الأولى، كانت تغطية للكارثة البيئية التي خلفها غرق سفينة محملة بالمواد الكيماوية قرب محمية طبيعية.
لا أحد يهتم أكثر منه لمصير الكائنات الحية، ويناضل لحمايتها.
رن هاتفه وتناوله بحنق ليطفئه، منذ الصباح وزملاؤه في الصحيفة يتصلون به، لا رغبة له في الكلام مع أحد.
كانت زوجته.. لم يستطع منع نفسه من قراءة رسالتها الإلكترونية: «أين أنت؟ مررت على الشقة لآخذ بعض الأغراض، لدي ما أقوله لك».
مرت على الشقة، وأخذت أغراضها.
إذن لقد نفذت تهديدها، سترحل وتتركه.
«أنا في منتزه البجع، لا رغبة لي في رؤية أحد، لا فائدة من الكلام، واضح أنك اتخذتِ قرارك».
بعث الرسالة ولوح بهاتفه في الهواء وكأنه يريد رميه في البحيرة.. ثم وضعه جانبًا.. وضرب الماء بقدميه وصرخ بأعلى ما يستطيع.
استلم جائزته أمس، ودفع زوجته أمامه بفظاظة، وغادرا الحفل، تشاجرا في الطريق إلى السيارة، ورفضت مرافقته، وتعالت أصواتهما، ودفعها جانبًا وهو يصيح بأنه لا يحتاج لامرأة رخيصة مثلها في حياته، وذهب.
أخذت أغراضها.. معناهه أنها قررت فعلا الخروج من حياته.
حملق بيأس في البجعة التي لم تملّ من الدوران حوله، ودفن وجهه بين كفيه وبكى.
كم من الوقت مضى وهو على هذه الحال؟ لا يدري.
انتبه على لمسة يد، التفت ووجدها قربه.
لم يفكر، فتح لها ذراعيه وارتمت عليه وهي تبكي وتحضنه بقوة، واهتز جسده وفقدا توازنهما وسقطا معًا في الماء وهما يضحكان ويبكيان، والبجعة السوداء تدور حولهما..