هل عدت للخلف يوماً لتحدق في جدار ترك لون طلائه انطباعاً غريباً لديك وكأنه كان حائطاً بمنزلك تدب منه الحياة والذكريات؟!
هل لمحت قبل أن تغفو بنسيج ستائرك أُمّاً فتنامية تحتضن طفلتين تبدو بخطر وقبل أن تأتي نهاية مزعجة بحثت لها عن مخرج؟!
الأشياء لا تبدو كما هي في عين المبدع!
حين ترى ما لا يراه غيرك، وتصبح الظلال لها عندك معنًى وتفسير آخر، عندما تسمع الألوان وترى الموسيقى وتتذوق المطر، وتخلق لحناً متبادلاً ما بين خطى المارة وصوت الشجر؛ اعلم بأنك في ملكوت المبدعين.
تلك الزوايا لا يفهمها إلا كُل محمَّل بسحب الفنون والجمال؛ فيمطر تميزاً وإبداعاً.
يتكئ على كل مفرق ومقهى للفكرة. يبري خياله؛ ليرسم كل التفاصيل. لا يترك منحًى ولا خطاً نافراً ولا لوناً ذابلاً إلا وقيده. وتناغم الألوان بنظره انعكاس لمضمون ومزيج حضارات! نوافذ أندلسية، نقوش بابلية، مآذن دمشقية وقطة فرعونية! جميعها تراها فقط إثر اندماج لوني الأزرق بالأصفر! «لا تتعجب»!
كهذه، تبدو الأمور بعين المبدع لا شيء بها مقنع ولا منطقي! تجتمع الصورة والكلمة أو اللحن بلمح البصر بلا قوانين؛ فكل شيء يحصل عندهم بقاعدة شاذة تخصهم، وأفكارهم قابلة للطي والثني؛ لا مستحيل هناك، فمخيلتهم تتسع لناطحات الجنون والفنون.
اعلم أن أتعس وأضيق لحظات المبدعين حين يُحاطون بأشخاص بارعين بلغة الأرقام «واحد + واحد»، وكل شيء بقياس وثمن، ويمكن ولا يمكن! لا تواصل أبداً ولا تلاقي في نقاط إحداثيتهم الإبداعية.
إن أردت إحباط مبدع أخضع أفكاره للأرقام؛ فوحده يعلم بأنه يستطيع إدخال فيل بحجرة النوم بلا أي أضرار! على العكس قد يخلق خلف كل ضرر وفوضى لوحةً فنيةً أو زاويةً جميلةً تصلح لاحتساء قهوة الصباح وللاستماع لفيروز!
المبدعون؛ وكأنهم جنود الله على هذه الأرض كُلِفُوا بالحس الجمالي الخلاق، يستحقون أن يكونوا سفراء الفنون والترفيه بامتياز. أتساءل ماذا حلَّ بكل مبدع صغير تم تحجيم وتقليص أفكاره من قِبل محيطه؟!
كم مبدعٍ لحقه لقب مجنون وتافه وفارغ! كم طفل ضُرب وهو ينحت بسقف حجرته أبطال ديزني! دون أن يُعطى البديل ويأخذ فرصته بطريقة صحيحة.
من يفهم حقاً كيف تأتي المواهب، وما أعراضها على أصحابها! ويعي أن فعلاً بها ضرب من الجنون؛ يستطيع أن يميز الأشخاص المميزين. يستطيع وضع يده على المواهب الخام منذ نعومة أظافرها وصقلها حتى تتجسد وتكون في شكلها الأخير الذي يجب أن تكون عليه!
لو قال لكم أحدهم بأنه يؤمن أن الجمادات تتحدث مع بعضها حين لا نكون برفقتها! وأن اللون الأحمر هو جندي ينزف وهارب من ساحة حرب! وأن الأصفر ابن الشمس! أجهضته لحظة غروب! وأن الأبيض هو لون قلوب الأمهات، هل تصدقونه؟!