.أدارت ظهرها للحفلة، وتقدمت بخطا مترددة في الممشى الطويل المؤدي إلى المنزل، الجو ربيعي جميل، ونسيم الظهيرة المشبع بدفء شمس أبريل، يداعب خصلاتها ويرمي بعضًا من زهور الجاكراندا البنفسجية على رأسها، حديقة الفيلا المترامية الأطراف منسقة على شكل مساحات خضراء مربعة، تزينها أشجار باسقة محملة بالزهور، مهرجان من الألوان الصفراء والحمراء والبنفسجية التي تتطاير عند كل هبة ريح، وتكسو العشب الأخضر الكثيف بحلة خلابة ملونة، أبعدت عن شعرها ما علق به، وشعرت بخشونة غرتها المقصوصة بشكل متعرج، تكرهها، يا الله كم تكرهها.. أمها تصر على أن تقصها لها بنفسها مرتين كل شهر، وتردد عندما تشعر بمقاومتها الصامتة: «جبينك ضخم، يمكن أن ترعي فيه قطعان ماشية.. لا بد من إخفائه.. ثم لا تنسي.. شعرك يهرب من أعلى الرأس، من كثرة ما تدفنين وجهك في الكتب، جدتك محقة، لن تخسري نظرك فقط، وإنما شعرك أيضًا، ستصبحين صلعاء قريبا.. اهدأي.. ودعيني أعمل.. لن ندفع مالاً للكوافيرة من أجل قص غرة.. لسنا أغبياء..»
والنتيجة.. عليها أن تتحمل سخرية أقرانها بسبب خط الشعر المتعرج الرابض فوق جبينها..
اقتربت من إحدى شرف الفيلا المفتوحة على الحديقة، باب زجاجي كبير يحيط به جدار من النباتات المتسلقة الخضراء، التي تتدلى منها زهور عنقودية بيضاء وليلكية، استدارت قبل أن تخطو نحو الداخل، هل سترى ريهام مانعًا إن تجولت في البيت..؟ صديقتها مشغولة في الحفلة، وسط مدعويها، جيش من الشباب المتحلق حول حوض السباحة الفخم الذي نصب قربه البوفيه الخيالي المعد للاحتفال، أطنان من الكعك والحلويات والسكاكر والساندويتشات الفاخرة والعصائر التي لا تخطر على بال. الجميع غارق في اللهو، ترك والدا ريهام البيت لها ولأصحابها، وهي الآن تحتفل بعيد ميلادها كما تريد، الموسيقى الصاخبة تتعالى بجنون، بعض الشباب استغلوا حوض السباحة لعرض عضلاتهم أمام الفتيات، والبنات يتصايحن ويضحكن وهن يبتعدن عن قطرات الماء المتناثرة حولهن كلما قفز الشباب في الحوض.
«بعضهم محظوظ..» همست لنفسها وهي تتقدم داخل البيت، ريهام تعيش في قصر.. وتقول إنها تشعر بالملل.. عجبًا.. عجبًا..
دلفت داخل صالون فخم تتوسطه قطع أثاث مذهبة، كنبات ومناضد ومزهريات عملاقة، وستائر ثقيلة ولوحات وتحف.. ومنه انتقلت إلى صالون آخر أثاثه منسق حول شاشة تلفاز كبيرة.. اجتازت ممرًا رخاميًا وعيناها تتنقلان بين قطع الديكور الأنيقة، واللوحات التي تزين الجدران والسجاد الممتد في كل مكان، لم يسبق لها أن رأت كل هذا، شقة والديها الصغيرة تتسع بالكاد لها ولإخوتها وجدتها التي تعيش معهم، عالمها مختلف تمامًا، وتعلق ريهام بها غير مفهوم.
تعرفا على بعض في المدرسة، جاءت ريهام مع فريق من مدرستها الخاصة لتقديم تبرع لمدرستها، مجموعة كتب وأجهزة حاسوب، وجدت نفسها في إحدى اللحظات تتحدث مع فتاة قرأت أغلب الكتب التي جاءت بها، جمعهما حب المطالعة.. ونمت صداقتهما سريعًا.
وحين دعتها ريهام لحفلة عيد ميلادها لم تتردد، كانت فرصة لترى أين تعيش، ومن ترافق.
توقفت عند باب خشبي مبطن، لم يكن مغلقًا تمامًا، دفعت دفتيه وفغرت فاها بذهول.
لقد دلفت إلى أجمل مكان في الفيلا.
مكتبة واسعة تغطي جدرانها الأربعة رفوف تمتد حتى السقف، ويتوسطها مكتب فخم ومنضدة وأرائك وثيرة وكرسي هزاز وكنبة ضخمة، وضعت أمام شرفة خلفية تطل على الطرف الثاني من الحديقة؛ حيث لا هرج ولا فوضى، فقط شجر كثيف وعشب غض وأزهار خلابة ونافورة حالمة ونسيم يتلاعب بالأوراق والأغصان، وينثر الزهر في كل مكان.
دمعت عيناها وهي تدور حول نفسها وتتطلع إلى كل هذا الجمال.
حامت حول الرفوف واختارت كتابًا ضخمًا لم يسبق لها أن رأت طبعة مذهبة له كهذه التي أخذتها بين يديها.. رواية «البؤساء» لفيكتور هيجو. كتابها المفضل الذي طالما أعادت قراءته بشغف وحب.
فتحت الشرفة، وتنشقت بنشوة عبير الزهور المسكر.. ثم أخذت مكانها على الكنبة.. وفتحت الكتاب.
لو يتوقف الزمن..
لو تستمر هذه الظهيرة ولا تنتهي..
|