كلما مررت من مفترق الطرق الذي يفصلني عن مكان عملي، أراهم يحومون حول إشارات المرور، ويترقبون الضوء الأحمر ليمدوا أيديهم إلى سائقي السيارات المتوقفة طالبين مساعدة مالية، عشرات من الأفارقة المهاجرين، رجال ونساء، شباب في أغلبهم، بعضهم يحمل رضعًا، أو يسوق أطفالاً صغارًا شديدي الهزال، يشكون إليك محنتهم، ويقسمون بأنهم لم يتناولوا طعامًا كافيًا منذ أيام، ترق قلوب الكثيرين لهم، ويرمون في أيديهم ما تيسر من الدراهم، أو أحيانًا يمدونهم ببعض ما في سياراتهم من أكل أو شراب.
لم يسبق لي أن أعطيتهم شيئًا، أبناء بلدي أولى بالإحسان، هكذا كنت أفكر، محنة هؤلاء الناس صعبة، لكنني لست المسؤول عنها، ولا المخول لحلها، الأمر أكبر مني ومنهم، وفي جميع الأحوال، لست شخصًا ميسورًا، راتبي يكفي بالكاد لتغطية مصاريف عائلتي، وسيارتي المتهالكة التي لا أقدر على استبدال محركها، رغم أنها تتعبني بمصاريف صيانتها، خير برهان على فقري وحاجتي، ينبغي لهم أن يتغاضوا عني، هذا ما كنت أقوله بيني وبين نفسي عندما يقتربون من نافذتي ويطلبون بنبرة منكسرة بعض المساعدة مني.
ذات ظهيرة، وأنا آخذ والدي إلى المصرف لاستلام معاشه، اقترب شابان منهم من السيارة ومدا أيديهما طلبا للمعونة، كان الجو حارًا، وكنا في أيام رمضان الأولى، رفعت يدي معتذرًا كعادتي وأشحت بوجهي، وعاتبني والدي: «أعطهم شيئًا يا بني، نحن في شهر عبادة، ولا يجوز أن ترد سائلاً كيفما كان...».
«أعرف يا والدي، ولكن هؤلاء الناس لا يريدون أن يفهموا أننا لا نستطيع مساعدتهم، نحن بأنفسنا نحتاج إلى المساعدة.. ثم إنني لا أفهم لماذا يتركون بلدانهم ويهاجرون.. أوروبا ليست جنة، المعيشة فيها صعبة والبطالة متفشية..».
«لا ينبغي أن ترد من يمد يده لك..»، ردد والدي بعناد، وتنفست الصعداء عندما زمر سائق السيارة التي تقف خلفي بنفاد صبر؛ مطالبًا بأن أتحرك بعد أن صارت الإشارة خضراء.
ما إن قطعنا بعض المسافة، حتى أصدر محرك سيارتي صوته المنذر بعطل، ثم توقف.. رفعت عيني إلى السماء بيأس، وحاولت تشغيله على دفعات، دون جدوى، لم يكن الوقت ولا المكان مناسبين للتوقف، الحر خانق، والشارع معزول، ووالدي المسن لا قبل له بتحمل القيظ والصيام في نفس الوقت.
تناولت هاتفي، واتصلت بصاحب الجراج الذي تعودت على أخذ سيارتي إليه، رن الهاتف طويلاً دون أن يجيبني أحد.
«قلت لك إنه لا يجوز أن ترد سائلاً..»، ردد والدي من جديد، وتملكني انفعال شديد..
وخرجت أنظر حولي وأبحث عن مساعدة.. أية مساعدة.
انحنيت نحو والدي وأخبرته: «سأبتعد وأرى، إن كان بإمكاني أن أجد جراجًا أو أستوقف سيارة أجرة، هل ستكون بخير يا أبي؟ لن أتأخر..».
«إن شاء الله.. لا تقلق..»، قال وأخذ يتلو بعض الأدعية، وجريت نحو الطرف الثاني من الشارع وأنا أتصبب عرقًا.
سيارتي المتهالكة لا تتوفر على تكييف، ووالدي لن يتحمل البقاء فيها طويلاً.. علي أن أسرع..
مرت الدقائق ببطء وأنا لا أرى سوى البنايات المغلقة والشوارع الخالية من المارة، لمحت أخيرًا سيارة أجرة واستوقفتها، وطلبت من السائق أن يتوجه على الفور إلى حيث تركت أبي، فكرت في أن آخذه إلى المصرف أولاً، ثم أرجع لأهتم بأمر السيارة.
قفزت من مقعدي بهلع عندما وصلنا إلى وجهتنا، كان ثمة جمع من الأفارقة حول سيارتي، انخلع قلبي من مكانه وأنا أفكر في لائحة المصائب التي يمكن أن تكون قد وقعت، هجموا على والدي وجردوه من الدريهمات التي يحملها، أفزعوه وأفقدوه صوابه، ضربوه وتركوه مغمى عليه..
كان فعلاً في حالة يرثى لها؛ ممددًا على المقعد الخلفي، وقربه شاب أسمر.
«مسكين الحاج..»، قال الشاب: «أصيب بنوبة قلبية.. لقد أسعفته ولكنه بحاجة إلى رعاية طبية وفحوصات.. يجب أخذه إلى المستشفى..».
قلبت عيني في الأفارقة، وطمأنني الشاب: «لا تقلق.. كنت أعمل في مستشفى في داكار.. لدي دبلوم تمريض.. وأعرف جيدًا حالات مرضى القلب..»
نطق والدي بإعياء : «الولد أنقذ حياتي.. قلت لك يا ابني.. لا ترد سائلاً.. لا ترد سائلاً».
بكيت وأنا أمسك رأس الشاب وأقبله بامتنان، وتعاون أصحابه معي لنقل والدي إلى سيارة الأجرة، ودفعني الشباب خلفه وهم يصيحون: «لا تقلق، سنحرس سيارتك..اذهب في أمان الله..».
مسحت دموعي، وحضنت والدي.
كانت تلك آخر مرة أتجاهل فيها من يمد يده لي؛ طلبًا للمساعدة.