مرّ الأسبوع الثاني دون أن أحرز تقدماً. لا أدري ما الذي يحدث لي. خيالي جف، وأناملي شلّت، أو كادت. العم حيان الذي أعمل في ورشته يسألني كل يوم.. ما الجديد؟ هل بدأت...؟ لا.. حتى الخطاطات لم أعد أقدر على إتمامها. إحساس متزايد بالعجز والفشل يقض مضجعي، ويعذبني.
أستاذ معهد الفنون، الذي أتاح لي فرصة المشاركة في المعرض، يستعجلني. تلقيت مكالمتين منه. وبدا لي في المكالمة الأخيرة جافاً، وربما نادماً؛ لأنه تورط بإدراج اسمي ضمن لائحة الفنانين المشاركين.
حكاية فشل جديدة أضيفها إلى لائحة خيباتي الطويلة.
منذ قدومي للعاصمة، قبل أربع سنوات، وأنا أعمل في ورشة العم حيان. أساعده على عرض وبيع اللوحات التي يأتي بها الرسامون عاثرو الحظ مثلي. العم حيان رجل طيب، تركني أسكن في العُليّة التي يملكها، فوق الورشة، ورفض أن يتلقى مني إيجاراً، تحت ذريعة أن مقامي فيها يضمن له حراسة ليلية للورشة. وكأنني، بجسدي النحيل وقامتي القصيرة، أستطيع إخافة من تسوّل له نفسه التسلل إلى المكان!
خيره لن أنساه أبداً، إذ لولاه لضعت في الشارع بين المتسولين واللصوص وأصحاب السوابق. وعجزي الحالي عن إنجاز عمل يشرفه يزيد من إحباطي وحنقي على نفسي. أستاذ الفنون، الذي تدخل لي، واحد من معارفه، وقد قدم لي تلك الخدمة؛ إكراماً للرجل العجوز الذي تربطه علاقة ودّ واحترام به.
دارت كل هذه الأفكار في ذهني وأنا أعيد توضيب اللوحات داخل الورشة، عندما سمعت العم حيان يناديني. هناك من يطلبني.
تقدمت إلى المدخل، حيث كان يجلس خلف مكتبه الخشبي المتهالك، وفوجئت بالرجل الواقف أمامه يستدير ليستقبلني وعلى وجهه ابتسامة عريضة.
زوج خالتي.. ما الذي يفعله هنا؟!
نظرت إليه بصمت وتقدم يأخذني في حضنه ويسأل عن أحوالي.
يسأل عني، بعد أن طردني هو وخالتي شر طردة.
استأذن العم حيان للتحدث معي على انفراد، وأخذته جانباً ودمي يغلي. ما الذي يريده مني.. ما الذي ذكّره بي بعد كل هذه السنوات؟!
توسل إليَّ لأرافقه إلى مراكش. خالتي مريضة وتودّ رؤيتي، والمزرعة مقلوبة، وصاحبها يقول إنه سيبيع كل شيء وهما لا يدريان ماذا يفعلان. وسعيدة، ابنتهما الوحيدة، في إسبانيا مع زوجها، ولا تستطيع الحضور الآن.
فتحت فمي لأرفض طلبه. وترددت. حديثه المتكرر عن مرض الخالة حرّك فيّ شيئاً.
حكيت للعم حيان ما كان، وألح عليّ لأرافق زوج خالتي. الورشة لن تهرب، وسفري إلى المزرعة قد يلهمني أفكاراً تساعدني على إنجاز اللوحات المطلوبة.
استقللنا القطار، وأخذ زوج خالتي يحكي لي عما حصل. صاحب المزرعة الآن هو السيد مروان. أبوه توفي منذ شهرين. وهو جاء رفقة ابنه الرضيع. زوجته تخلت عن حقها في الحضانة، ألا تعرفينه؟ لا يا عمي. لا أعرف شيئاً عن مروان، أو السيد مروان، كما كنتم تجبروني على تسميته. لم أعلم بأنه تزوج، ولا بأنه أنجب، ولا بأنه انفصل عن زوجته، ولا بأن والده مات. كل ما أعرفه هو أنكما، أنت وخالتي، قلبتما الدنيا على رأسي؛ لكي لا أحلم بربط علاقة به.
كان حباً من النظرة الأولى. شيئاً لم أعرفه من قبل ولا من بعد. إحساساً عميقاً، حميماً، دافئاً، رائعاً... جمعني وإياه... وجنّ جنون خالتي وهي تصرخ في وجهي ناعتة إياي بأقذع الأوصاف... ومعلنة بأن السيد مروان من حق ابنتها... وبأنني فتاة لعوب، لا تقدّر المعروف الذي أسدته لي هي وزوجها عندما فتحا لي بيتهما بعد وفاة والدي.
رمتني خارجاً ذات صباح، أثناء غياب السيد مروان عن المزرعة، وأمرتني بألا أريها وجهي ثانية.
وها هي الآن ترسل في طلبي.
وقفت تنتظرني وتفتح ذراعيها على عتبة المنزل الذي تشغله في الطرف القصي من المزرعة، حيث مساكن العمال. لم تبدُ مريضة، ولا مختلفة كثيراً عما تركتها عليه.
قالت إن الأكل جاهز، وعاتبتني لأنني لم أسأل عنها ولا عن زوجها، ولا عن ابنتها التي تزوجت أحد أبناء العمال.. «لديه وظيفة محترمة في إسبانيا. سعاد تجاوزت الخامسة والعشرين... لم تعد صغيرة...»..
نظرت إليّ وفهمت الرسالة. أنا أيضاً تجاوزت الخامسة والعشرين. وماذا بعد...؟!
«حبيبتي... تصوري أن مروان هذا يريد بيع المزرعة لتاجر عقار.. ماذا سيحلّ بنا؟ أين نذهب؟ يجب أن نفعل شيئاً. إنه وحيد... تزوج ابنة أحد الأثرياء... شابة كثيرة السفر واللهو... تركته وابنه واستعادت حريتها. ماذا يظن؟ يدفن رأسه في الكتب صباح مساء... أي امرأة تقبل هذا؟!».
لم أفهم. حتى الآن لم أفهم علاقتي بكل هذا.
«سأل عنكِ» قالت خالتي وهي تزمّ شفتيها وكأنها تبلع سيلاً من الكلام الذي لن يروق لي.. «جاء يسأل عنكِ. كلميه. أنتِ فرصتنا الأخيرة...».
لم أصدق! معقول... كل هذه الدناءة؟!
استأذنت وقمت أغادر المائدة. ماذا أفعل الآن... أنفجر في وجهيهما؟ أحمل حقيبتي وأغادر المكان؟ أضرب رأسي بالحائط؟
خرجت أتمشى وأذناي تطنان. كل هذه البشاعة. كل هذه الحسابات الدنيئة. ماذا أكون في نظرهما؟
لا أدري كم مضى من الوقت قبل أن أجد نفسي على ضفة الغدير، الذي طالما رسمت قربه، حلمت قربه، بكيت قربه.
ناداني... ورفعت رأسي بذهول.
زمن مضى.. زمن رجع.
أربع سنوات اختفت كالسحر.. تقدمنا نحو بعض... ودق قلبي بجنون وأنا ألمس الكف التي مدها نحوي.